تراجعت 150 ألف جنيه، اليوم تطبيق أسعار سيارات جاك JS2 الجديدة    تطور مفاجئ في أسعار الذهب قبل ساعات من كلمة رئيس البنك المركزي الأمريكي    تسير في الاتجاه المعاكس، دولة تجبر موظفيها العمل 6 أيام أسبوعيا    بهدف قاتل، أوروجواي تطيح بصاحبة الأرض من كوبا أمريكا وتصعد إلى ربع النهائي (فيديو)    الثانوية العامة 2024... رفع تراكمات القمامة بمحيط لجان الثانوية العامة بالشرقية    مفاوضات مع جورج كلوني للانضمام إلى عالم مارفل    فودة يفتتح أول مطعم أسيوي بممشي السلام في شرم الشيخ    روسيا تدعو إلى النظر في إنهاء العقوبات الدولية المفروضة على كوريا الشمالية    طرح شقق الأوقاف 2024.. المستندات المطلوبة وشروط الحجز    نتنياهو: المرحلة الرئيسية من الحرب ضد "حماس" ستنتهي قريبا    إصابة 30 راكبا جراء مطبات هوائية خلال رحلة من إسبانيا إلى أوروجواي    واشنطن تفرض عقوبات على منظمات غسيل أموال في المكسيك والصين    خالد داوود: أمريكا قررت دعم الإخوان بعد أحداث 11 سبتمبر    كوبا أمريكا.. أوروجواي 0-0 أمريكا.. بنما 0-0 بوليفيا    ردة فعل غير متوقعة من بيراميدز تجاه ثروت سويلم    أحمد حجازي يحسم مصيره مع اتحاد جدة.. ويكشف تفاصيل عرض نيوم السعودي    خلال أيام.. البترول تعلن مفاجأة بشأن إلغاء تخفيف الأحمال نهائيا في فصل الصيف (تفاصيل)    مصرع وإصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالأقصر| صور    تزامنًا مع أولى الجلسات.. اعترافات المتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    رئيس حزب «الغد»: يجب على الحكومة الجديدة إعطاء الأولوية لملفي الصحة والتعليم    برلمانية: تنفيذ توصيات الحوار الوطني أولويات على أجندة الحكومة الجديدة    الفنان أحمد أمين: سعيد جدا إنى أكون رئيس مهرجان نبتة الأول للأطفال    أرملة عزت أبو عوف تحيى ذكري وفاته بكلمات مؤثرة    «الإفتاء» توضح حكم تغيير اتجاه القبلة عند الانتقال إلى سكن جديد    الأزهر يعلن صرف الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري اليوم    مخاطر الأجواء الحارة على مرضى الصحة النفسية.. انتكاسة العقل    3 مشروبات عليك تجنبها إذا كنت تعاني من مرض القلب.. أبرزها العصائر المعلبة    حيل ونصائح تساعد على التخلص من النمل في المنزل بفصل الصيف    متى تنتهي أزمة نقص الدواء في مصر؟..البرلمان يجيب    «الأرصاد»: ارتفاع جديد في درجات الحرارة ذروته الخميس وتصل ل45 درجة    قضايا الدولة تهنئ المستشار عبد الراضي بتعيينه رئيسًا لنيابة الإدارية    الزمالك يتقدم بشكوى رسمية لرابطة الأندية ضد ثروت سويلم    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد جنوده وإصابة آخر في انفجار قنبلة بالضفة الغربية    «نيبينزيا» يعطي تلميحا بإمكانية رفع العقوبات عن طالبان    جامعة الأزهر تعلن تسخير جميع الإمكانات لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة    عبدالله جورج: الزمالك سيحصل على الرخصة الإفريقية    ناقد فني: شيرين تعاني من أزمة نفسية وخبر خطبتها "مفبرك"    فى ذكرى ميلاده ال«80».. وحيد حامد الذى «كشف المستور»    ماذا طلبت الإعلامية سهير جودة من نقيب المهن التمثيلية بشأن دار المسنين؟ (فيديو)    عصام عبد الفتاح: الأهلي ليس وراء رحيلي عن لجنة الحكام    النيابة تستعلم عن الحالة الصحية ل 7 أشخاص أصيبوا في سقوط مصعد بالمهندسين    أمين الفتوى يحسم الجدل عن الهدايا بعد فسخ الخطوبة: لا ترد إلا الذهب    تهانينا للنجاح في امتحانات الدبلومات الفنية لعام 2024    موعد الإعلان عن الحكومة الجديدة وأداء اليمين الدستورية.. أحمد موسي يكشف (فيديو)    نكبة 30 يونيو.. الحصاد المر والعلاج "الأمرَّ"    دولتان تتصدران مشتريات خام الأورال الروسي في يونيو    ميدو: الكرة المصرية تستند على لوائح جار عليها الزمن    تعرف على توقعات برج الثور اليوم 2 يوليو 2024    استخراج الجثة السابعة لفتاة إثر انهيار منزل بأسيوط    العالم علمين| عمرو الفقي: المهرجانات محرك أساسي لتنشيط السياحة وترويج المدن الجديدة.. وتخصيص 60% من أرباح مهرجان العلمين لفلسطين    الوصول ل "زايد والهرم وأكتوبر" في دقائق.. 20 صورة ترصد محور 26 يوليو الجديد    تنسيق الثانوية 2024.. تعرف على أقسام وطبيعة الدراسة بكلية التربية الموسيقية حلوان    برلماني: المكالمات المزعجة للترويج العقاري أصبحت فجة ونحتاج تنظيمها (فيديو)    مستشار ترامب السابق يتوجّه إلى السجن لتنفيذ لحكم قضائي    وظائف خالية بهيئة الإسعاف المصرية.. «تفاصيل وطريقة التقديم»    انطلاق فعاليات المسح الميداني بقرى الدقهلية لاكتشاف حالات الإصابة بالبلهارسيا    أمين الفتوى عن الهدايا بعد فسخ الخطوبة: «لا ترد إلا الذهب»    غدا.. "بيت الزكاة والصدقات" يبدء صرف إعانة يوليو للمستحقين بالجمهورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام الدوم
نشر في المصري اليوم يوم 23 - 07 - 2010

كان هناك، واقفاً بجوار عربته الخشبية فى مكانه المعهود بجوار باب المدرسة فى انتظار خروج الأطفال. تجمدت قدماى تماماً ورحت أرمقه فى حنين طاغ، أتساءل فى دهشة: كيف مرت الأعوام دون أن أنتبه لوجوده، رغم أن المدرسة فى طريق عودتى وذهابى؟.. بالتأكيد رأيته مراراً دون أن ألاحظه، كنت أنظر إلى الداخل وقد تلاطمت بصدرى أمواج الهموم، موج يمسك فى تلابيبه موج. متاعب العمل، مشاكل الأسرة، هموم الوطن، وأرزاق نطلبها وتطلبنا.
واليوم يعود، وكأن ثلاثين عاماً لم تمر منذ أن كنت أحد الصغار المتزاحمين حول عربته الخشبية، أقبض فى حرص على قرش أبتاع به سعادة كاملة.
أيام الدوم، حينما كانت البنات مجرد كائنات سخيفة يحسن الابتعاد عنها، رائحة ساندويتش الجبن تفوح بمجرد فتح الحقيبة، همهمة الفصل، والركض المنفلت بمجرد سماع جرس الانصراف، والازدحام المتسم بالعربدة عند باب الخروج، والمشاجرات المعتادة والضرب بحقائب المدرسة، ثم صفوف البرتقال المغسول بمطر الشتاء على العربات الخشبية فى طريق العودة، وبرك المياه المتناثرة هنا وهناك، وتلك اللذة الغامضة حينما تبتل أقدامنا عالمين أن الدفء والجفاف ينتظرنا فى المنزل.
وأزيز الموقد نسمعه ونحن نشب على أقدامنا لضرب الجرس، ورائحة الطعام الساخن تتسلل إلينا بمجرد فتح باب المنزل، والحذاء الملوث بطين يبلغ أضعاف حجمه نخلعه دون أن نفكر كيف يصبح نظيفا لامعا فى الصباح التالى!، وأمهاتنا منهمكات فى عشرات الأعمال المنزلية، والأغانى تنساب من المذياع الضخم لتمثل لنا فيما بعد ذاكرة الوطن، وشمس الأصيل تنحدر بسرعة مؤذنة بليل الشتاء الطويل، والواجبات المدرسية الثقيلة ننجزها مضطرين بعد أن اقترب موعد النوم، ترتيب الحقيبة بسرعة ثم نندس فى الفراش البارد بأجسامنا الصغيرة متلذذين بالبرد والدفء التدريجى القادم، وفى التاسعة مساء تُطفأ الأنوار وتستيقظ الأحلام والذكريات لبرهة قبل أن نغرق فى النعاس اللذيذ.
وغدا صباح جديد.
بنية اللون، خشبية التكوين، كروية الشكل، منبطحة أحيانا، صغيرة ولذيذة، نكهتها جميلة جدا، نكهة الطفولة ذاتها.
عن ثمرة الدوم أتحدث.
فى غفلة الطفولة السعيدة، لم يكن يعنينا سوى أن نجد العربة الخشبية العتيقة واقفة أمام باب مدرستنا وقت الخروج، وحولها التفت ثلة من الأطفال، يعلو الصخب والأيدى الصغيرة ترتفع بالقرش محاولة الوصول للبائع الصعيدى صاحب الشارب الكث.. يقف وسط الأطفال بجلبابه الصعيدى عالما أنه أهم شخصية فى عالمهم الساحر، لو تغيب يوما عن موعده المعتاد أمام باب المدرسة لانكسرت مئات القلوب الصغيرة التى تنتظره بفارغ الصبر.
رأسمال هذا الجميل بسيط جدا.. عربة يد خشبية عتيقة جدا بها المئات من ثمار الدوم المستديرة، وشاكوش صغير يهشم به القشرة السميكة، ومهرجان ألوان حافل متمثل فى ثمرات النبق الصفراء مع الكثير جدا من الحرنكش الذى تم صفه فى خيوط على سبيل الزينة، والكثير جدا من الأوراق الملونة والخيوط المتطايرة، عربة أحلام للأطفال بامتياز.
تشترى الدوم بقرش، تنحتها بأسنانك الصغيرة حتى تصبح ملساء تماما، بعدها تلعب بها الكرة مع أصدقائك، تصلح أيضا سلاحا مرتجلا للحرب، حينما يضايقك طفل تصوبها على رأسه ثم تعدو بأقصى سرعتك لتنفذ بجلدك، وغدا يوم آخر جديد فى ذاكرة الأطفال الملساء يصبح فيها عدو الأمس صديق اليوم.
يا لأيام الدوم الجميلة التى مضت مثل كل شىء رائع، لكن اليوم خرجت عربة الأحلام من الماضى العتيق، وأنا أقف أمامها فى رهبة وخشوع، مدرستى الابتدائية القديمة ذات الفصول المتسعة والجدران العالية، نفس البائع العجوز بجلبابه القديم النظيف أيضا، وكأن تلك الأعوام لم تنقض والأيام لم تمر.. اقتربت منه فى وجل، الوجه؟ نفس الوجه. والشارب؟ نفس الشارب، فقط اشتعل بالبياض.
أتأمل باب المدرسة المعدنى العتيق فى رهبة، وأتساءل عما يمكن أن يحدث لو ولجت إلى فناء المدرسة؟.. مثل ثغرة مسحورة تقودنى إلى زمان آخر وجدت الباب ينفتح أمامى فى بطء ليدعونى كى أتقدم.. حارس المدرسة العجوز ظل ينظر نحوى فى حياد دون أن يحاول منعى.
وقفت أرمق ما حولى والدموع تبلل عينى، هنا عمرى كله أو أجمل ما فيه.. الحوش المتسع!، فيه عدوت كأرنب، وتسلقت الأشجار كقطة، وتمرغت فى التراب كفأر، وطرت فى الهواء كعصفور.. هنا أحببت وكرهت، وصالحت وخاصمت، وضحكت وبكيت، وحلمت وصُدمت، هنا منذ ملايين السنين الضوئية، بل منذ أمس فقط!، كنت طفلا يحسن الدهشة ويتقن الحلم.
وهذا هو صنبور المياه تتساقط منه القطرات الأبدية– كأنها الأعوام والأيام- فأحس بعطش السنين الذى لا يرويه ماء على وجه الأرض غير ماء ذلك الصنبور.. فى شبه تقديس مضيت إليه لأرتوى، بملء كفى وبفمى مباشرة.
وهذه هى شجرة النبق العجوز فى فناء المدرسة تمنحنى وجهها كله.. تذكر لا ريب هذا الصبى الذى لطالما أدمى لحاءها بالبرجل الذى حفرت به اسمى مرارا لكنها سامحتنى على ذلك.
ها هى البناية العتيقة التى تلقيتُ فيها دروسى صغيرا، أقف مأخوذا أمام الدرجات العالية بينما تقترب منى سيدة تهبط الدرج بخطوات ثقيلة تنتهكها الشيخوخة.. وفجأة وقفت أمامى وتجمد كلانا.. هتفت دون وعى:
مس ميرفت!
وأقبلت علىَّ هاشة باشة، وصافحتنى فى حرارة.. معلمة اللغة العربية. ليس غريبا أننى تذكرتها، ولكن الغريب أنها تذكرتنى ونادتنى باسمى! وقفت أمامها مرتبكا كطفل صغير يخشى أن يفشل فى الاختبار!. لم تتغير تقريبا باستثناء التجاعيد والشعر الأبيض، ولكن من قال إننى خال أنا الآخر من التجاعيد والشعر الأبيض، سألتنى عن أحوالى ثم ودعتنى وقد تمنت لى صباحا سعيدا.
تجمدت خطاى أمام الباب العتيق، أعمال كثيرة تنتظرنى بالخارج، حيث ألتقى بأناس لا أود لقاءهم.. منهكا متقلبا من غربة إلى غربة أشد.
مدرستى القديمة هى بيتى الحقيقى الذى طالت عنه غربتى، وبرغم ذلك يجب أن أذهب. لكنى قبلها سأصنع شيئا أود أن أصنعه بجماع قلبى.
أتقدم نحو بائع الدوم والعربة الخشبية، لا أدرى كيف حدثت المعجزة! كلما اقتربت من البائع وجدتنى أقصر وأصغر، أسعد وأجمل. حتى أصبحت فى قامة العربة الخشبية تقريبا، وبصوت رفيع يشبه صوتى منذ ثلاثين عاما مددت قرشا خرج لتوه من رحم الماضى الحبيب: هات لى دومه يا عم، وتظاهر الرجل بالانهماك وتقليب الدوم حتى عثر على واحدة راقت له، تفحصتها بعين خبير فوجدتها كما توقعت: بنية اللون، لذيذة، بنكهة الطفولة.
قلت بصوت رفيع: اكسرها، فامتثل الرجل وراح يدق عليها بالشاكوش. وبسرعة لا تصدق رحت (أنحتها) بأسنانى حتى صارت ملساء تماما فدحرجتها على الأرض أمامى ثم ركلتها بقدمى وجريت خلفها أواصل الركل والتصويب، بينما راح البائع العجوز ذو الشارب الكث ينظر نحوى نظرة محايدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.