ما زلت أتابع الأسماء التى تفرض نفسها بقوة على كل وسائل الإعلام وعلى التواصل الاجتماعى فى الوقت الراهن، ومنها اسم السيدة «كامالا هاريس» التى انتخبت مؤخرا، نائبة الرئيس الأمريكى «جو بايدن». وقد استرعى انتباهى أن «هاريس»، وهى من أصحاب البشرة السوداء، متعددة الأعراق، فأبوها جامايكى من أصل إفريقى، ووالدتها هندية، أما هى فترى نفسها مواطنة أمريكية بالدرجة الأولى. وكامالا ديفى هاريس (من مواليد 20 أكتوبر 1964) لم تأت من فراغ أو بالصدفة كما حدث مع الرئيس الأمريكى السابق «ترامب»، فهى سياسية ومحامية شهيرة، وهى حاليًا عضو مجلس الشيوخ الأمريكى الأحدث عن ولاية كاليفورنيا منذ عام 2017. وهى ثانى أمريكية من أصل إفريقى وأول أمريكية من جنوب آسيا تعمل فى مجلس الشيوخ الأمريكى. اللافت للنظر أن كامالا، مثل نانسى بيلوسى، اكتشفت حقيقة الرئيس السابق ترامب، واكتسبت شهرتها لتشكيكها فى مسؤولى إدارته خلال جلسات استماع مجلس الشيوخ. وهذا ما يدل على بعد نظر النساء وقدرتهن على اكتشاف حقيقة من يتعاملون معه. وقد نشرت كامالا مذكراتها لأول مرة بواسطة دار بنجوين للنشر فى 8 يناير 2019. وتقول فى المذكرات إنها وُلِدت فى «أوكلاند» بولاية كاليفورنيا، وتخرجت فى جامعة «هوارد» من كلية «هيستينجز» للقانون. وقد نشأت كامالا فى عائلة أكاديمية فوالدتها (شيامالا غوبالان) عالمة تاميلية هندية متخصصة بسرطان الثدى، هاجرت إلى الولاياتالمتحدة من مدينة مدراس بولاية تاميل نادو الهندية عام 1960 بهدف الحصول على درجة الدكتوراه فى علم الغدد الصماء من جامعة كاليفورنيا فى بركلى. أما والدها، (دونالد هاريس)، فهو أستاذ فى علوم الاقتصاد فى جامعة ستانفورد، هاجر من جامايكا فى عام 1961 بهدف إكمال دراساته العليا فى الاقتصاد فى جامعة كاليفورنيا فى بركلى. ولكامالا شقيقة واحدة فقط تصغرها بالعمر، واسمها مايا هاريس. وقد حفلت حياتها المهنية بالعديد من المناصب المهمة، أذكر بعضها. بدأت حياتها المهنية فى مكتب المدعى العام لمقاطعة «ألاميدا»، وانتُخِبت فى عام 2003 مدعية عامة لمنطقة سان فرانسيسكو ثم انتُخِبت لمنصب المدعى العام لولاية كاليفورنيا فى عام 2010 وأُعيد انتخابها فى عام 2014. وقد جذبت الاهتمام عندما ترشحت للانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الديمقراطى عام 2020، إلا أنها أنهت حملتها فى 3 ديسمبر عام 2019. ولكن تراجعها لم يؤثر على مكانتها فاختارها الرئيس (الحالى) جو بايدن فى 11 أغسطس عام 2020 لتكون نائبته؛ وستدخل هاريس التاريخ لأنها أول أمريكية من أصل إفريقى، وأول أمريكية آسيوية، وثالث امرأة تُرَّشح لمنصب نائب الرئيس الأمريكى على قائمة حزب كبير بعد «جيرالدين فيرارو» و«سارة بالين» على التوالى. الأمر الغريب أن كامالا هاريس كانت تعد نفسها لمستقبل مختلف تمامًا عما انتهت إليه. ففى فترة مراهقتها شاركت فى تأسيس فرقة راقصة صغيرة تتكون من ستة راقصين، وأدت معهم عددًا من العروض الراقصة فى المراكز المجتمعية، وفى الجمعيات الخيرية، إلا أنها حادت عن هذا الطريق وتخلت عن طموحها الفنى بعدما تخرجت فى المدرسة الثانوية، والتحقت بجامعة «هوارد» فى واشنطن لتدرس الاقتصاد والعلوم السياسية. وفى عام 1989 حصلت «كامالا» على درجة الدكتوراه فى القانون من كلية هاستينجز للقانون فى جامعة كاليفورنيا، ثم التحقت بنقابة المحامين فى ولاية كاليفورنيا عام 1990. وتقول كامالا فى مذكراتها إنها بعد تخرجها قررت البحث عن وظيفة تمكنها من تطبيق القانون، لأنها أرادت أن تكون «موجودة على الطاولة حيث يتم اتخاذ القرارات» وذلك إيمانًا منها بحاجة العالم إلى «مدعين عامين أكثر وعيًا اجتماعيًا»، ومن ثم تخصصت فى محاكمات الاعتداء الجنسى على الأطفال، بعد أن لاحظت صعوبة العمل على هذا النوع من القضايا بسبب ميل هيئة المحلفين إلى قبول كلام البالغين أكثر من قبولهم كلام الأطفال. بدأت هاريس تشق طريقها بنجاح كبير، وفى عام 2010 فازت فى انتخابات المدعى العام لكاليفورنيا، وأُعيد انتخابها لنفس المنصب مرة أخرى عام 2014 بفارق أصوات كبير عن باقى المرشحين. وفى 8 نوفمبر من عام 2016 أصبحت ثالث امرأة تشغل مقعد السيناتور الأمريكى عن ولاية كاليفورنيا، وأول سيناتور من أصول هندية أو جامايكية. بعد حصولها على مقعد مجلس الشيوخ، دعمت هاريس عدة مشاريع لإيجاد وسائل لمساعدة المهاجرين غير المسجلين للحصول على الجنسية، ولقانون تطوير ورعاية وتثقيف المهاجرين القُصّر (المعروف اختصارًا باللغة الانجليزية ب(DREAM ACT)، ولتخفيض الأعباء الضريبية عن الطبقتين العاملة والمتوسطة مقابل زيادتها على الشركات، وعلى ما نسبته 1% من الأمريكيين الأكثر ثراءً. وبالمناسبة هاريس متزوجة من المحامى اليهودى دوجلاس إمهوف منذ 22 أغسطس 2014، ولديه طفلان من زواجه السابق من المنتجة السينمائية كرستين إمهوف. أما هى فمسيحية معمدانية، وتقدر ثروتهما، هاريس وزوجها، ب5.8 مليون دولار منذ 2019. الجدير بالذكر أن هاريس اعتُبِرت من كبار المنافسين والمرشحين الأوفر حظًا فى الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الديمقراطى لعام 2020. ولم تكن تستبعد الفوز، فقد حققت فى اليوم التالى من إعلان ترشحها رقمًا قياسيًا لأكبر عدد من التبرعات التى جُمِعت، كما حضر آلاف الأشخاص حفل إطلاق حملتها الرسمية فى مسقط رأسها «أوكلاند» فى كاليفورنيا. الطريف أنها خلال المناظرة الرئاسية الديمقراطية الأولى فى يونيو عام 2019 وبخت نائب الرئيس السابق (وقتها)، جو بايدن، بسبب تصريحاته «المؤذية» التى أدلى بها، وتحدثت باعتزاز عن أعضاء مجلس الشيوخ الذين عارضوا جهود الاندماج فى سبعينيات القرن العشرين، وعمله معهم لمعارضة النقل المدرسى الإلزامى. بعد هذا النقاش ارتفعت أسهم هاريس فى استطلاعات الرأى. إلا أنه انخفض إلى أقل من 10% خلال الأشهر القليلة التالية؛ وذلك بسبب سياسات صارمة ضد الجريمة اتبعتها عندما كانت مدعية عامة فى كاليفورنيا؛ وذلك فى الوقت الذى تزايد به قلق الليبراليين بشأن تجاوزات نظام العدالة الجنائية؛ منها، على سبيل المثال، قرارها فى عام 2014 الدفاع فى المحكمة عن عقوبة الإعدام فى كاليفورنيا. وفى 3 ديسمبر عام 2019 انسحبت «هاريس» من ترشحها لانتخابات الحزب الديمقراطى الرئاسية لعام 2020، متعللة بنقص الأموال، وأيدت «جو بايدن» لمنصب الرئيس فى مارس عام 2020. وقد حقق بايدن فوزًا ساحقًا فى الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين فى ساوث كارولينا لعام 2020، وبعد وفاة الأمريكى الأسود «جورج فلويد» وما أعقب ذلك من احتجاجات ومظاهرات واجه «بايدن» دعوات متجددة لاختيار امرأة سوداء لتكون نائبته فى الانتخابات، فما كان منه إلا أن اختار «كامالا هاريس» فى 11 أغسطس عام 2020 نائبة له، ورحبت هى بهذا الاختيار، وفى السابع من نوفمبر عام 2020 تم الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكى «جو بايدن»، وبذلك أصبحت هاريس أول امرأة من أصول ملونة تنتخب نائبًا لرئيس أمريكا. ومن المعروف أن «بايدن» يعانى من مشاكل صحية، ومن المرجح ألا يعاود الترشح بعد انتهاء مدته، بل قد لا يكمل المدة الأولى. وستكون كامالا هى الرئيس بحكم القانون إلى أن يتم انتخاب رئيس جديد، أى أنها ستتقلد ذلك المنصب الخطير فى كلتا الحالتين. ولا شك أن العالم سيكون أفضل كثيرًا بعد ذلك.
