تناولنا فى الحلقة الأولى بعض الأسس والآيات القرآنية التى ترسم لنا معالم النظام الديمقراطى، وتتعارض مع نظام الحكومة الدينية أو «الثيوقراطية» بما قد تتضمنه من إدخال أحكام الشريعة فى الدستور والقانون المصرى أو استبدال الدستور والقانون بها. والمقصود بالشريعة كما ذكرنا هو ما ورثناه عن الدولة العباسية من الفقه حسب المذاهب الأربعة والمذهب الجعفرى، وهى مذاهب ترعرعت فى ظل الخلفاء العباسيين، ونالت دعمهم ومساندة ذوى السلطة لها، مما مكنها من الإزدهار والانتشار دوناً عن المذاهب الأخرى التى قد اندثرت عبر الزمان. فالشريعة جزء مهم ومشرف من تراثنا وتاريخنا، الذى نعتز به، ولكنها منتج بشرى، أنتجه رجال معروفون بأسمائهم وتراجمهم وكتبهم، فبذلك نريد أن نفرق بين شرع الله وأحكامه التى فصلها لنا فى كتابه المعجز، الذى لا عوج له، الصالح لكل زمان ومكان وبين مفاهيم البشر القابلة للصواب والخطأ والمرتبطة بظروف الزمان والمكان. 3- الشورى: بما أن نظام الحكومة الدينية القائم على الشريعة غير إسلامى، لتعارضه مع مبدأ التوحيد ومبدأ عدم الإكراه فى الدين، فإذن لابد من البحث عن مبدأ آخر يقوم عليه النظام المتوافق مع القرآن الكريم وما يرسمه لنا من مبادئ الدين الإسلامى توافقاً جوهرياً ولا يظهر الإسلام ويبطن استرباب البشر، وهذا المبدأ معروف وهو مبدأ الشورى، فقد قال- تعالى- فى المؤمنين: «... وَأَمرُهُم شُورَىٰ بَينَُم ...» (الشّوري: 38) وبالتالى، فإن السلطة التشريعية تستمد شرعيتها من مبدأ الشورى، وبالتحديد، الشورى بين من سيطبق عليهم الأحكام، فالآية الكريمة تقول «بينهم»، إشارة إلى الخاضعين لهذه الأحكام والقوانين أى الشعب المصرى بأكمله. ولا يجوز تطبيق أى قوانين وأحكام تنعدم فيها الشورى. أما الشريعة التى ورثناها عن الدولة العباسية، فإنه من غير المعقول أن ندعى أنه قد تمت استشارتنا فيها، لأنها تبلورت منذ قرون عديدة، ولم نكن قد ولدنا بعد. فمبدأ الشورى غير متواجد فى نظام الحكومة الدينية أو أى نظام يطبق الشريعة اليوم. فشريعة الدولة العباسية من عمل أهل ذلك الزمان، والدولة العباسية أمة قد خلت، لهم أعمالهم ولنا أعمالنا ولا نسأل عما كانوا يعملون. ومن الجدير بالذكر أن القرآن يقدم نموذجين للقيادة من فئة البشر العادية الذين هم ليسوا بأنبياء ولا يتلقون وحيا: ملكة سبأ وفرعون. أما ملكة سبأ، فهى نموذج للقائد الجيد، تتصف بالشفافية، وتشاور شعبها، وتفضل الحلول التى تعطى الكرامة للناس. وبذلك هداها الله إلى أن تقود شعبها لما فيه خير لهم (سورة النمل). أما فرعون فهو زعيم استبدادى، يحكم باسم الدين إذ قال للناس: «أنا ربكم الأعلى» (النازعات 24). فضل وأضل قومه. وهل من قوم اتخذوا أرباباً من دون الله إلا إذا ما أضلهم الله بالأرباب؟ أما نبى الله، الأسوة الحسنة، فلم يكن بحاجة إلى نصائح أصحابه، والله يشير عليه، إذ إنه يتلقى الوحى، وبالرغم من ذلك أمره الله بمشورتهم (آل عمران 159)، ولعل الحكمة فى ذلك هى أن يتعلموا هم الشورى ، فهم المحتاجون لها أكثر منه. ونجد أبا بكر وعمر- رضى الله عنهما- تعلما هذا الدرس جيداً، وتفوقا فى فنون القيادة. ومن الجدير بالذكر أن مبدأ الشورى يتناسب تماماً مع مبدأى التوحيد وعدم الإكراه فى الدين، ويرسم صورة متكاملة لأساس الحكومة الشرعية، فبينما مبدآ التوحيد وعدم الإكراه فى الدين يستبعدان نظام الحكومة الدينية، يقرب لنا مبدأ الشورى نظام الديمقراطية. خاتمة: وبذلك يستمد النظام الديمقراطى شرعيته من مبدأ الشورى، وفى ظله يتشاور النواب مع أعضاء دائراتهم ومع النواب الآخرين ومع الخبراء والقانونين والندوات العامة قبل إصدار اللوائح والقوانين والدساتير، ونحو ذلك من شؤون السلطة التشريعية. والنظام الديمقراطى البرلمانى أفضل طريقة لتطبيق مبدأ الشورى فى الحكم، لأنه يتيح الفرصة لأكبر عدد من المواطنين أن يدلوا بصوتهم وأن يكون لرأيهم وزن. والدعوة إلى نظام ديمقراطى لا تعنى أنه لا يمكن أن تكون الشريعة وسيلة غير مباشرة للتشريع، فقد يستلهم منها البعض أفكاراً لقوانين جديدة، وفى هذه الحالة، لابد من أن تناقش هذه القوانين، كل على حده فى مجلس الشعب، ويستفتى فيها المعنيون بالأمر، ويمر كل واحد منها بشتى القنوات الديمقراطية والبرلمانية قبل أن يطبق على البلاد. ولا تفرض هذه القوانين من سلطات دينية بشرية سواء كانوا رجال دين أو غيرهم. وفى النظام الديمقراطى، يلعب الدين دوراً كبيراً لأنه جزء لا يتجزأ من البشر، يكنّ فى قلوبهم، ويشكل قيمهم وأخلاقهم التى بها يحكمون ويتخذون قراراتهم، وبذلك يمارس جميع أفراد الشعب المصرى دينهم فى حياتهم السياسية، ولا تختصر هذه الممارسة على الخاصة، ويتحمل الجميع مسؤوليتهم الدينية والسياسية، ويؤدون واجبهم. أما نظام الحكومة الدينية، فهو حكومة الأرباب، يتمركز فيها العمل السياسى الدينى فى أيدى الخاصة الذين يفرضون إرادتهم على الناس تحت شعار الدين، وهذا السيناريو غير مقبول. ■ مقاصد الشريعة: هى قمة فكرية من قمم الفكر الإسلامى التى ورثناها عن الدولة العباسية، والتى ينشغل بها علماء العصر الحالى للانتفاع منها، فهى أداة للتطوير من داخل الشريعة نفسها، وهى بمثابة معيار لنجاح الأحكام وغيرها، ووسيلة لمعرفة ما إن كانت تحقق الأهداف أم لا. فيما يلى سنقارن كلا النظامين: الديمقراطية والحكومة الدينية (الثيوقراطية)، لنرى أيهما يحقق أهداف الشريعة، وسنرى من خلال هذه المقارنة أن الديمقراطية تتناسب مع مقاصد الشريعة، وأن الحكومة الدينية لا تتناسب معها، وعلى هذا الأساس، لعلنا نستطيع أن نقول إن الديمقراطية هى التطور الطبيعى للشريعة الإسلامية والتى يجب أن تخطو فى اتجاهه حتى تسير شريعة العصر. ■ حفظ النفس والحياة : السمع والبصر والفؤاد من معالم الحياة، فالشخص الميت لا يرى ولا يسمع ولا يفكر ولا يدخل ما يعى فى قلبه. بالتالى فالحفاظ على حقنا وقدرتنا على استخدام قوانا العقلية، لتدبر معانى القرآن الكريم وللتمييز بين الصواب والخطأ والحرام والحلال- يحافظ على الحياة. الحكومة الدينية نظام ذو مستويين، مستوى له الحق فى التفكير والتحدث فى الدين، وله حق فرض أفكاره على الآخرين، ومستوى آخر صم بكم عمى. أما الديمقراطية، فهى تمكن الجميع من ممارسة حقوقهم وواجباتهم الدينية وتنمى قدرة الناس على التفاعل مع ظروف الحياة. ■ حفظ العقل: النظام الديمقراطى الذى يكفل الحرية الدينية والسياسية ويكفل حق الناس فى استخدام عقولهم فى نشاطهم السياسى والدينى- يحافظ أيضاً على العقل. كما أن التعددية والاختلاف فى الرأى يعملان كمنشط فكرى، مما يؤدى إلى حركة ونهضة فكرية. أما الحكومة الدينية التى تفرض على الناس مفاهيمها الدينية الخاصة، وتقل فيها حرية الفكر الدينى، وتحاول احتواء التعددية والاختلاف فى الرأى، فنظام بهذا الشكل لا يساعد العقل على أن يلعب دوراً فعالاً، بل يضع له حدوداً تعمل كسد من فوق عقول الناس، ومن تحتهم، ومن جوانبهم، فلا يستطيعون أن يفكروا خارج النطاق الضيق الذى يرسمه لهم أربابهم. ولقد شبه الله- تعالى- فئة الضالين الذين اشتروا الضلالة بالهدى على أنهم يستوقدون النار، أى أنهم يمكنون أشخاصاً آخرين من إيقاد النار، ليبصروا على ضوئها، بدلاً من أن يوقدوها بأنفسهم، فهم لا يمرنون سمعهم وأبصارهم وعقولهم، وتكون الحياة حول القوقعة الفكرية التى يعيشون فيها كأنها عاصفة، إذا وصلهم شىء مما يحيى قلوبهم سار كأنه رعد، فخافوا منه، لأنهم لم يتعودوا تشغيل ما أعطاهم الله من ملكات، وحاولوا إغلاق سمعهم، وبصيرتهم ضئيلة. الدنيا ظلام بالنسبة لهم إلا إذا ما وصلهم شىء من البرق من خلال جدران القوقعة. أما فئة الكافرين، فقد ختم الله على الغشاوة التى اختاروها، وسارت على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم، فلا أمل فى إحيائهم (انظر سورة البقرة 20 –16 :2). ومن نعم الله علينا أن جميع ما يأمرنا به فيه خير لنا، ونستطيع أن نفهمه بطريقة محسوسة ملموسة، وأهم ما أمرنا به هو التوحيد، ولعل الحكمة منه تتضمن تحريرنا من القيود الفكرية التى يضعها الأرباب حول البشر، وإطلاق العنان للفكر ليلعب دوره فى التنمية الحضارية، ولعل التوحيد كان أكبر عامل فى قيام الحضارة الإسلامية، التى فاقت جميع الحضارات فى زمانها، ومن الطريف أن الحضارة الغربية سبقتها نهضة فكرية دينية يهودية ومسيحية، كانت أقرب للتوحيد الإسلامى، ومن رواد هذه الحركات الفكرية من درس القرآن أو كانت عنده دراية به، من أمثال مارتن لوثر وأبراهام جايجر، وإن كانت هناك بعض الحدة فى كتاباتهم عن القرآن، ولكنهم أدخلوا تغييرات فى دينهم تذكر بتعاليم القرآن التى تدعو إلى المساواة الدينية بين البشر والبعد عن الاسترباب والقرب من الكتاب وتدبره. وقد حدثت نهضة فكرية دينية وسياسية فى تاريخ مصر الحديث أيضاً، ومن إعلامها جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ومن معالم نجاحها أنها قد أدت إلى نهضة مصر فى مجالات كثيرة. ■ حفظ النسل حفظ النسل يتطلب تربيته بطرق سليمة، والمؤسسات الدينية والسياسية لها وظيفة تربوية مهمة، فإذا كان السياسيون ورجال الدين نهجهم استبدادى، فسوف تنشأ عليه الأجيال، وبذلك يتعلمون أن يطأطئوا للظلم والطغيان وأن يطبقوا الأسلوب نفسه، عندما يصبحون قادة بدورهم. أما إذا نشأوا على المساواة والشورى والديمقراطية، فسوف ينتشر هذا النموذج فى شتى المجالات، وبالتالى فمن المحافظة على النسل أن تتعلم الأجيال القادمة كيفية التعامل مع الاختلاف فى الرأى والتعددية بطريقة راقية ومتحضرة، والديمقراطية توفر ذلك سياسياً ودينياً. ■ حفظ الدين: النظام الديمقراطى يحفظ أساس الدين الإسلامى، وهو التوحيد، كما أنه يحفظ مبدأى عدم الإكراه فى الدين والشورى، مما يحفظ الدين أيضاً. وبالإضافة إلى ذلك، يحفظنا هذا النظام من الافتراء على الله ونسبة الظلم إليه. وذلك لأن أى نظام حكم لن يخلو من الأخطاء، فلمن نريد أن ننسبها؟ إن زعمنا أننا نطبق الشريعة وسميناها «شريعة إسلامية» وخلطنا بينها وبين دين الله ونسبناها إلى الله، ألسنا إذاً ننسب هذه الأخطاء إلى دين الله؟! أما إن فصلنا بين الدين وسلطات الدولة، فنحن بذلك ننزه الله عن أى شبهات أو أخطاء قد يرتكبها البشر. ■ حفظ المال: الديمقرطية مناخ سياسى أفضل من الحكومة الدينية، لتحقيق الانتعاش الاقتصادى المنشود، فهى تحفظ حرية الفكر السياسى والدينى، وهى بمثابة حجر الأساس الذى يوفر الأمان والكرامة الإنسانية لجميع المواطنين، ذلك إلى جانب ما توفره من الاستقرار السياسى مع تواجد طرق التغيير والتجديد، لاعتمادها على الانتخابات الحرة وعنصر الاختيار وتعدد الأحزاب السياسية. أما نظام الحكومة الدينية فلا يضمن حرية الفكر والدين للجميع مما قد يخيف الكثير من المستثمرين. ■ خاتمة: ونحن الآن على مفترق الطرق، فهل سنخطو إلى الأمام ويظل فكرنا الدينى متقوقعاً فى مفاهيم الدولة العباسية، أم سنستطيع أن نحيى قلوبنا ونغير من أنفسنا حتى ننهض ببلدنا؟! فإنه من غير المعقول أن تحدث نهضات سياسية واقتصادية واجتماعية ويظل فكرنا الدينى ميتاً، مقتصراً على فكر تولد فى ظروف تاريخية زالت بزوال زمانها، فنحن الآن فى مرحلة نحتاج فيها إلى النشاط الفكرى والشورى، وإلى أن نسمع آراء الجميع، حتى نستطيع أن نتوصل إلى أفضل الحلول، وقد عرضت عليكم فكرى ورأيى فى الموضوع، وأنا أرغب فى أن أستمع إلى آرائكم، فليتقدم كل من يهمه الأمر وعنده ما يستطيع أن يضيفه إلى الحوار، والسلام. د. نيفين رضا دكتوراة من جامعة تورنتو فى الدراسات الإسلامية