قبل سنوات قليلة فقط كانت هناك نظرة عربية مشككة بإنسانية المواقف التركية، ذكريات سلبية عن آخر عهد الخلافة الإسلامية، كتابات وأقوال دينية ومناهج دراسية عديدة رشقت تهما نحو الجمهورية التركية التى تخلت عن الإسلام كنظام حكم. تركيا دولة الإلحاد، تركيا العلمانية التى فصلت الدين عن الدولة والسياسة. اليوم تحولت تركيا لرمز الإنسانية والملائكية بذات العيون العربية. قل عدد المتطاولين على علمانية تركيا، بل يبدو الأمر وكأنهم يستنجدون بها منتظرين أن تخلصهم من الاضطهاد ومن الظلم. وكثيرا ما ينتظر العرب. فحالة الانتظار وصفة مرسومة فى الثقافة العربية. لا أحد يعمل. الجميع يشتكى والجميع ينتظر ويحلم بقدوم المنقذ والمخلص. سفينة تركية قادت قافلة مدنية وفعلت ما لم تفعله حكومات بأكملها. الأمر يتطلب تحركاً أكثر منه بكاء وعويلاً. صار رجب طيب أردوجان بطلاً، وأستمع لأناس يترحمون على زمن الخلافة العثمانية بعدما كانوا يحلمون قديما بإنهاء عهد طرابيش استانبول. حلم العرب بالاستقلال عن حكم استانبول، ثم غضبوا من أتاتورك لأنه ألغى الخلافة وأقام نظاما علمانيا استمرت أسسه إلى اليوم، ثم عادوا اليوم ليشيدوا بالحكم التركى. تركيا تفصل بين السياسة والدين لذلك استطاع المجددون الإسلاميون إذابة جليد الإسلام السياسى وإحلال إسلام معاصر وسياسة معاصرة لا تنكر الدين والأخلاق بل تحميهما، بالوصول لنهج علمانى يحمى التراث كما ويقبل على الغرب. نهج يؤمن بأن الدين تجب حمايته من تقلبات ومزاجيات الساسة، كما يحدث فى عدد من الأنظمة التى تكفر بالعلمانية ويهان الدين بها. أتاتورك ثار على الحكم القديم ورسم خيوط العلمانية التركية. صارت تركيا بعيدة عن الدول والمجتمعات العربية والإسلامية التى تتشدق بتمسكها بالدين فى كل حين. لكن لم تمنع العلمانية التى تنتهجها تركيا من وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم فى تركيا، ولم تقف العلمانية حائلاً بين مبادئها وبين اتخاذ تركيا موقفاً إنسانياً تجاه قضية حساسة كالقضية الفلسطينية. نتذكر كيف انسحب أردوجان من إحدى ندوات مؤتمر دافوس العام الماضى حيث كان بيريز مشاركاً بها أيضاً، أعلن أردوجان رفضه ممارسات إسرائيل واستمرارها فى انتهاك حقوق الإنسان وانسحب من الجلسة. العلمانية حسبما تفهمها النظرة العربية التى تهوى أن تتلقن دون أن تبحث وتتقصى، هى نظام ملحد يبعد الإنسان عن الدين ويبيح كل انحلال، وفى ظله تشيع الفوضى وتندثر الأخلاق ولا يعود بمقدور الأسر الإمساك بزمام الأمور خاصةً أمور بناتها. كلما وجهت سؤالا لكثير من المتحررين الذين أعرفهم: أنت علمانى؟ يبدو عليه الخوف والقلق من ردة فعل الناس فيتهرب فوراً ويفلسف إجابته بالسؤال: وما تعريفنا للعلمانية ؟ أو يجيب: لست علمانياً إنما أطالب بالحرية والتعددية... دون أدنى محاولة منه لشرح مصطلح العلمانية للرأى العام. باعتقاده فإن الجمهور لا يتحمل هذا اللفظ الذى لا يقل بشاعة عن أى شتيمة جنسية، كما يعتبر من التابوهات التى يخجل أصحابها من الإعلان عن انتمائهم لها. أجمل تعريف للعلمانية كما يطرحه المؤمنون بها أنها لم تكن نظاما اجتماعياً صرفاً قط وليست قائمة على فرض نمط حياة معين على الأفراد. أما الحريات بمضمونها فمتعلقة بالحريات الفردية والسياسية إذ تقوم على مبدأ احترام الرأى الآخر والتعددية. صحيح أن النظام الاجتماعى هو انعكاس لواقع السياسة، لكننا نرى جميعنا تأخر الحياة الاجتماعية اليوم فى عدة بلدان اختلطت بها السياسة بالدين لدرجة الالتصاق، وصار الدين وسيلة من لا حيلة له للوصول لكل غاية. للسلطة، لإباحة كل شىء. حتى ما كان يعرف بالمحرمات الدينية سابقاً صار مباحاً ومشروعاً وبالأدلة. بحث صغير ونظرة سريعة على الفتاوى التى تظهر كل حين تؤكد هذا القول. الفوضى السياسية جلبت فوضى اجتماعية، والقمع السياسى والانغلاق الدينى أدى لانحلال أخلاقي. وعلى النقيض، فالرقى المتمثل بشيوع الحريات السياسية سينعكس بالتأكيد على رقى الحياة الاجتماعية وشيوع الحريات الإنسانية بطريقة متقدمة دونما ابتذال. العلمانية فكر سياسى لا يحمل قوانين يجب اتباعها، ولا يحوى سلوكيات دينية موحدة، هو فكر من أجل حماية حقوق الأفراد وحرياتهم بغض النظر عن طبيعة ميولهم الدينية. ليكون لكل فرد صوت داخل مجتمعه وحقه بممارسة شعائره. العلمانية فكر يكفل حقوق الأقليات التى صارت مضطهدة اضطهاداً واضحاً فى الدول العربية والإسلامية. العلمانية لا تفصل الدين عن المجتمع إنما تفصل السياسة عن الدين. فى تركيا تنتشر ملصقات تحمل صور أتاتورك بكل الأماكن، وفى تركيا تصدح المساجد بأجمل أصوات الأذان لتشعرك بخشوع قلما يعبرك ببقية الأرجاء الإسلامية. وفى تركيا العلمانية هناك نساء محجبات، وهناك مبادئ وقيم شرف لم تتدنس بفعل الأفكار الدينية المختلفة والمتناقضة والمتعاركة حد التكفير. السفينة التى تنتمى لتركيا العلمانية تقود قافلة الحرية. تقود نشطاء عرباً وأجانب. وتخرج بعد الهجوم الإسرائيلي أصوات تركية (تؤمن بالعلمانية) لتتوعد إسرائيل بكل جرأة وحزم ليس لأن القتلى كانوا أتراكا بل لأنه نظام يؤمن بالعدالة والإنسانية. هذا ما أفرزته العلمانية. ماذا تفعل بقية الأنظمة غير العلمانية وماذا يفعل الرافضون لعلمانية تركيا فى سبيل حرية الإنسان وحقوقه؟ لا شىء. - هذا شكرى الخاص لآلاف الأتراك الذين دعمونى فى الحملة التى وجهت ضدى قبل أشهر وكانوا نعم العون بكلماتهم الراقية وتشجيعهم المتواصل.. هؤلاء تجاوزوا مسألة المعتقد والمعركة من أجل الموروث. صاروا يبحرون بعوالم إنسانية مختلفة تماما عن عوالمنا. [email protected]