رحل مبارك....رحل والدى..... مات الرجل الذى ربانى.. مات أبى مقهوراً محبوساً ... مات أبى و قد كسر قلبه على ولديه قبل أن يموت ....رحل أبى وقد هددوه بحبس شريكة عمره .... سرقوا منه التاريخ وسرقوا من أحفاده المستقبل... كم أشعر بالكره لهذا البلد... كم أشعر بالكره لهذا الشعب... كم أشعر بالكره لكل من تخلى عن والدي... كم أشعر بالكره لأصدقاء الأمس ...كم اشعر بالكره للثورة و الثوار ....الكره فقط هو ما تبقى عندى من إحساس داخل قلبى .أكرهكم جميعأ ...."اكرهكم!!!!". تردد صدي كلمته الأخيرة- التى خرجت دون قصد منه -بعنف داخل الزنزانة الصغيرة التى يغلفها الظلام إلا من شعاع خافت يسرى من كوة صغيرة فى أعلى الحائط. ورددت الجدران صدى إجهاشه وهو يصدم رأسه بالحائط. كان يعلم أن صوته لن يصل إلى أحد فى زنزانته المنفردة و لكنه سمع صوت صفيربدا أنه قريب منه. أخفت أنفاسه و أرهف سمعه فتأكد له أن صوت الصفير يتردد على مقربة منه. أمعن النظر نحو الجهة المظلمة التى تواجهه ولكنه لم ير شيئا و ازداد صوت الصفير حتى تأكد له أن شخصا أخر يشاركه الزنزانة. تكلم فى صوت متحشرج بسبب البكاء والرهبة : هل هناك أحد؟ لم يرد صاحب الصفير و استمر فى لحنه دون اكتراث. فصاح بلهجة مغلفة بحزم كاذب يشى بالرهبة أكثر من رباطة الجأش: من أنت؟ وما الذى تفعله هنا؟ ... سكت صاحب الصفير ورددت جنبات الزنزانة صدى خطوات قوية تقرع الأرض بدت له رنتها كقرع الطبول ثم توقفت الخطوات على مقربة منه. تصاعدت ضربات قلبه وأجهد نظره فى الظلام ليرى الماثل أمامه ولكنه لم ير شيئاً سوى الظلام الدامس. أحس أن شيئا ما قد مال نحوه وبدا وكأن انفاسا حارة ذات رائحة كريهة تقترب من و جهه قبل أن يتحدث إليه صوت اشبه بالفحيح: - ألا تعرفنى؟ أنا صديقك!! انخلع قلبه رعباً وألصق ظهره فى ذعر إلى الحائط خلفه وبدى صوته أكثر شحوبا من وجهه وهو يقول: -مم...ن أنت؟ تراجعت الرائحة الكريهة ورنت ضحكة ساخرة لا تقل كرها عنها و سمع الصوت يقول: -قلت لك صديقك؟ اتعجب منك يابن أدم! فأنت تنكر دائما أقرب الأصدقاء إليك! قال فى لهجته الشاحبة: - ولكنى لا أراك. رد ضاحكا: لن ترانى.... ومن الأفضل ألا تراني. ثم أردف : كما أنك لا تحتاج أن ترانى. أنا رفيقك منذ الصغر. وأقرب الناس إليك. لقد كنا نتحدث سويا دائما ولكن بصوت غير مسموع. كنا نتناقش و نختلف... اقنعك مراراً و تأبى على أحيانا. ولكن الحق أنك أنسان ودود واحببت العمل معك.هل عرفتنى الأن؟ بدت حروف كلماته مرتعشة وهو يقول: أنت عفريت؟ شعر أن زلزالا يهز أرجاء السجن من صدى ضحكته الطويلة قبل أن يتوقف عن الضحك ويقول: عفريت؟!!!! لا يا سيدي أنا أكبر من هذا. ثم قال فى زهو: بل أنا الكبير .. أنا الأول.. وأنا من سيبقى للنهاية. أنا الذى أحيا فى قلب كل إنسان. تجدنى فى كل الأحوال معك.. ولكنك يابن أدم تعشق أن تنسب المجد إليك وحدك. أنا طموحك حينما كنت صبيا وأنا غرورك حينما صرت شابا وانا.جبروتك حينما صرت رجلا...أنا الشهوة والمال.....أنا السلطة والقوة . أنا من تبحثون عنى وانا بداخلكم. هل عرفتنى الأن.؟ لم تصدر منه إجابة ولم يقطع الصمت سوي ضربات قلبه السريعه فتابع الصوت قائلا: للأسف أعاونكم دائما ولا أجد منكم غير نكران الجميل ، هكذا اعتدت منكم على مدار التاريخ ثم تابع كمن يتحدث إلى نفسه: أنا أول من قال لا... وأول من تحمل نتيجة أختياره وقد كان الحكم قاسيا و لكنى سأثبت أنى كنت على حق...ساد الصمت برهة ثم تابع الصوت فى هدوء: أظنك عرفتنى الأن.....وقرعت أرض الزنزانة صوت أقدام قوية مبتعدة لبضعة خطوات قليلة. أعتدل فى جلسته وضم ركبتيه إلى صدره وقال كمن بدأ يأنس إلى الحديث: لم أكن أتخيلك موجودا و ظننتك وهما فى عقول البشر . رد الصوت فى هدوء : - أعتدت هذا ممن يعينوني منكم ولكن أعدائى يؤمنون بى. لم يستوعب معنى الجملة ولكنه تابع متسائلا: لماذا أتيت إلى؟ . رد عليه فى حماس: سؤال مهم والإجابة لإنك طلبتنى. سأله مستنكرا: أنا ؟! .....لا أذكر أنى طلبتك!! أقتربت الخطوات نحوه قليلا وقال الصوت الشبح: - لا أنتظر الطلب و تكفينى الرغبة الصادقة فى أن أكون موجودا. لقد شعرت بصرختك. و أستطيع أن أقول أنه قلما وجدت "كرها" فى قلب بشر بهذا الحجم. كرها يؤهلك لأن أقدم إليك خدماتى. سأله فى دهشة : تقدم إلىّ خدماتك؟ لا أتخيلك تقدم خدمات لبنى البشر. أطلق صاحب الصوت ضحكة أخف من سابقتها. ثم سمعه يقول: لا يستحق كل البشر خدماتى ولكن يستحق البعض منهم ذلك. وللصدق أنا لا أقدم خدمات بدون مقابل. أسرع متسائلا: ومالذى تستطيع أن تقدمه لي؟ قال فى تعجب: غريبة ألن تسال عن المقابل أولا؟ ... رد قائلا : لا يهم. أريد أن أرى ما الذى تستطيع أن تقدمه؟ تحركت الخطوات ذهابا وأيابا فى الزنزانة ثم توقفت وسمع الصوت يقول: اسمع يا صديقى. نحن نعمل وفق قانون ومن أجل هدف. القانون هو ألا نتدخل فى حياة البشر رغم قدرتنا على ذلك ، فقط نقدم النصيحة والبشر أحرار فى تصرفهم. أما الهدف فهو أن تحدث الخطيئة الكاملة. وأسوأ شئ لدينا ألا يتحقق الهدف كاملا... لم يترك فرصة للإستفسار وتابع: لدينا أعوان كثيرون من البشر ولكن القليلون منهم من يحقق الهدف كاملا. لقد كان والدك من أكثر الناس الذين أفسدوا علينا أهدافا كادت أن تتحقق. تعجب من قوله وسأله مستنكرا: والدى؟ أجابه: نعم. لقد سعدنا به وعاوناه بالنصيحة وكادت تتحقق بعض الأهداف وانتشر الفساد والظلم ولكن فجأة تغير مردود ما كنا نتمناه! أرتفع عدد الشهداء فى السنوات الأخيرة من قتلى فى العبارات و القطارات ، كما لجأ الناس إلى التدين والزهد كرد فعل لإنتشار الفساد وكانت الطامة الكبرى أن حدثت الثورة وهو أسوأ ما كنا نتمناه. هل تعلم لماذا ؟ لأنها كانت مواجهة بين حق وباطل ونحن لا نريد هذه المواجهة لأن النتيجة محسومة. نحن نريد أن تكون المواجهات بين باطل وباطل... حقا لقد أضاع والدك مجهود سنوات!! قال فى حنق: حتى أنت لا يعجبك والدي؟!... دعك من والدي الأن وأجبنى بدون مقدمات: ما الحل الذى تملكه؟ قال: بدون مقدمات! حسنا! انظر! وفجأة بدا أمامه وكأن شاشة عرض قد أضيئت فجأة حتى أنه أغمض عينيه من الضوء المبهر. ثم تحقق مما يعرض أمامه كانت تتابع مشاهد تسجيليه خيل إليه للوهلة الأولى أنها مسجلة من العراق ولكنه سرعان ما تعرف إلى المعالم المصريه فى المشاهد المعروضة. كان المشهد الأول لتفجير كبير قرب ميدان التحرير وبدى أشخاص مصريون يهرولون فى ذعر وقد تناثرت أشلاء يشرية وعم دمار شديد فى المبانى المحيطة بالميدان ثم تبعه مشهد أخر لمعارك باسلحة بيضاء و عصى بين أشخاص يرتدون ملابس رثة ولكنهم للعجب يهاجمون رجال ونساء عزل بدى عليهم بعض الثراء والترف و يركبون سيارات حديثة . كان أصحاب السيارات يتركون مركباتهم فى ذعر ويهرولون تاركين متاعهم للمعتدين ثم تبعه مشهد لمجموعة كبيرة من الأشخاص يرتدون الجلابيب و بدى أنهم من صعيد مصر. العجيب أنهم كانوا يقطعون شريط القطار و قد أمسك بعضهم بأسلحة ألية و أطلقوا نيران كثيفة على القطار والركاب. ثم تبعه مشهد أكثر دموية يعرض تفجيرا ضخما فى أحد الكنائس أعقبه مشهد لتفجيرأكثر ضخامة لأحد المساجد و تسارعت المشاهد بصورة جعلته يفتح فمه فى دهشة كان طائرات تحمل علامة نجمة داود تقصف بشدة مبنى أشبه بهيئة قناة السويس تلاه مشهد لبارجات امريكية وأروبية فى ميناء الأسكندرية و تلاحقت المشاهد لجلسات فى مجلس الأمن وللجامعة العربية وتداخلت مع مشاهد التفجيرات وأطلاق النيران وبلطجية وكنائس محترقة و ملتحون و قساوسة غاضبين و بدو من سيناء ونوبيين و........توقف المشهد على صورة جعلته يهتف ماذا؟ كانت الصورة لخريطة جمهورىة مصر العربية وقد تقسمت إلى أربع دويلات وهم دولة سيناء ودولة النوبة ودولة الأقباط ودولة مصر القديمة..... اختفى العرض وساد الصمت إلا من أنفاسه المتهجدة. ثم سمع الصوت يقول: ما رأيك؟ أعتقد أن نار قلبك قد انطفئت الأن! قال مشدوها: هل ما عرضته الأن حقيقى؟ أقصد هل ترينى ما سيحدث فى المستقبل؟ أجابه: لا نعرف المستقبل ولا نطلع الغيب. ولكننا نسير وفق خطة و أستطيع أن أقول أن دقة التنفيذ تضمن اكتمال الخطة بنسبة مائة فى المائة. وما عرضته عليك هو الخطة سأله منبهرا: وكيف تنفذ الخطة؟ ضحك قائلا: على الرغم من أنه سر المهنه ألا أنى سأطلعك عليه. إنها الخطيئة الأولى.. الغرور!!. الخطيئة التى حوسبت عليها وهى التى سأرد بها أعتبارى. هل تعلم لماذا نجحت الثورة ضد والدك ولم أستطع أن أعاونه وقتها؟ لأنى لم أجد فى خصومه من يقول "الأنا" . كانوا على قلب رجل واحد فلم يستطع أحد حتى أنا يفتتهم. أما الأن فاستطيع أن أقول أنهم سيصبحون لقمة سائغة لى. لقد قضوا على فرعون واحد ولكنى سأجعل من كل مصرى فرعون لا يرى إلا مايراه وبعد أن كان صراعهم بين الحق والباطل سأجعله صراع الباطل مع الباطل من أجل الباطل. وهذا هو النجاح الكامل بالنسبة لى. نجاح ليس فيه شهداء نجاح يكون البقاء فيه للأشرس. لمعت عينيه فى انبهار وقال :وبهذا يدركوا الجرم الذى فعلوه بوالدي.... قاطعه الصوت: ليس قبل أن تؤدي المقابل .. وبالمناسبة لن يكون المقابل هينا انتبه فجاءة للإتفاق الذى أبرمه وقال: ماهو؟ سادت لحظات من الصمت وشعر بأن حرارة الزنزانة ترتفع دون سبب ثم سمع الصوت يأتى رهيبا كما لو كان يصدر من بئر عميق ويقول: لقد أن الأوان أن يسجد الطين للنار ارتجف جسده و كاد قلبه أن ينخلع وقد خيل إليه أن عينين اشبه بجمرات النار يحدقان فيه فى الظلام. و ردد الصدى صرخة الصوت: الآآآآن ..... الآآآآن "الآن" .."الآن" شعر بيد تهزه بعنف. فتح عينيه فغمرهما ضوء الشمس فى الزنزانة ووجد شقيقه يدفعه بيده ويقول أستيقظ لقد حضرت لجنة التحقيق وستبدأ معنا التحقيق "الأن". د. أسامة الشاذلى 22/4/2011