(1) مقالات متعلقة * مأساة العنبر رقم (6) * يا ست مصر.. صباح الخير * واتفرج ع الدنيا لو أغمضت عينيك، ستشعر أنك في حظيرة حيوانات، حيث يمتليء المكان برائحة النشادر والكرنب المتعطن والرطوبة السبخة. (2) لو فتحت عينيك، ستشعر أنك في سجن مُقْبِضْ، فالجدران كالحة شديدة القذرة، والسقف مغطى بالسناج الأسود، والنوافذ عالية تغتصب فتحاتها قضبان حديدية قبيحة، والأرضية رمادية مليئة بالحُفَر والحصى وشظايا الكسر، ومثبت فيها أرجل السرائر التي ينام عليها بشر يرتدون معاطف ملابس زرقاء وطراطير غريبة... إنهم المجانين، وهذا المكان هو العنبر رقم 6 كما وصفه تشيكوف في روايته التي تحمل نفس الاسم. (3) نزلاء عنبر المجانين خمسة أشخاص، واحد منهم مثقف وابن عائلة ميسورة، والباقون من الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى.. (الأول) رجل طويل نحيل، دامع العينين، مشلول يقبع في مكان واحد، وينظر في نقطة ثابتة، وبين الحين والآخر يتنهد ويهز رأسه، ويبتسم بمرارة.. لا يرد على أي شخص يكلمه، ونادراً ما يشارك في الأحاديث، ويسعل كثيراً لإصابته بمرض صدري (الثاني) فلاح بدين حتي يكاد جسمه القذر يبدو مستديرا، ملامح وجهه مسكونة ببلادة لا تعبر عن أي انفعال، منذ سنوات طويلة فَقَدَ القدرة على الاحساس والتفكير، وأصبح حيوانا عديم الحركة، يقوم الحارس الفظ «نيكيتا» بتنظيف سريره، ويضربه بقسوة وعنف، ولم يكن الضرب غريبا في العنبر، لكن الغريب أن الحيوان البليد لم يكن يَصْدُر عنه أي صوت أو حركة أثناء الضرب، فقط كان يميل قليلا، ثم يعود إلى وضعه الثابت كأنه برميل ثقيل. (الثالث) موظف بريد شاب، أشقر، وسيم الوجه، لكنه غامض.. عينيه تبرق ببريق غريب وتوحي بأن لديه سراً يحتفظ به، خاصة وأن تصرفاته تدل على أنه يخفي شيئا تحت مرتبة سريره، ويخاف عليه جدا، وكل فترة يتجه نحو النافذة وهو يعطي ظهره لزملائه، ويرفع يديه كمن يرتدي سلسلة في عنقه، ويحني رأسه ليشاهد صدره، وعندما يقترب منه أحد في تلك اللحظة، يرتبك وينزع السلسلة الخفية التي لا يراها أحد سواه، لكن مع الوقت لم يكن صعبا معرفة سره، لأنه كان يردد في كل مرة يتكلم فيها أنه مرشح لوسام من الطبقة الثانية، أو نيشان، أو نجمة، وفي بعض الأحيان يضيف بمكر: لكن عليكم أن تعرفوا أنني يوما سأنال وسام النجم القطبي السويدي، إنه جميل جدا، ويستحق أن يسعى المرء من أجل الحصول عليه. (الرابع) عجوز ضئيل الجسم، خفيف الحركة، ذو لحية مدببة وشعر أسود مجعد كالزنوج، يتحرك كثيرا داخل العنبر، وإذا جلس يجلس مربوعا، ويصفر بفمه كثيرا، ويغني، ويضحك بينه وبين نفسه دون أن يعرف زملاؤه سببا لقهقهاته الخافتة، وتصرفاته في العموم توحي بالوداعة والطيبة، إنه «مويسيكا الأبله»، صانع طواقي فقد صوابه منذ 20 عاما بعد احتراق ورشته، وهو الوحيد من نزلاء العنبر الذي يسمح له الحارس بالخروج إلى الفناء، ثم إلى الشارع، حيث يتسول، ويعود آخر النهار، بما وهَبَهُ له المارة واصحاب الدكاكين، تعاطفا مع شكله المضحك بالطرطور والشبشب، فيضربه الحارس «نيكيتا» بعنف، ويستولي منه على الأموال، وهو يصيح بغضب أنه لن يسمح له بالخروج مرة أخرى، مرددا في كل مرة نفس الكلام عن ضرورة الالتزام النظام، لأن أسوأ شيء بالنسبة له هو الفوضى! (4) يدخل مويسيكا إلى العنبر، بهدوء ويقوم بمهامه الليلية التي تعود عليها: يجلب الماء لزملائه، ويغطي النائم منهم، ويعد الجميع بأنه سيأتي لكل واحد منهم بالمال غداً، أو يُفَصِّل لكل منهم طاقية، ويطعم جاره الأيسر المشلول بالملعقة، ثم يجلس على سريره وهو يضم ساقيه تحته على الطريقة التركية، يضحك ويغني بصوت خافت..! (5) لم يكن مويسيكا يفعل ذلك، بدافع العطف على زملائه، ولا انطلاقا من قيم أخلاقية أو اعتبارات إنسانية، لكنه تعود على ذلك تنفيذا لتعليمات «إيفان جروموف»، وتقليدا لما يفعله..! (6) من الطبيعي أن يسأل القاريء: ومن يكون «إيفان جروموف؟، والإجابة هي المجنون الخامس الذي تحتل قصته أكبر مساحة من الرواية، والذي تقاطعت مأساته مع ماساة الطبيب أندريه راجين. وغدا نتعرف على «فانيا».. وهو اسم التدليل الذي كان الناس يطلقونه على عزيز قوم ذل يدعى «إيفان ديميتريتش جروموف». ......................................................................................................................................... * من اين يأتي الجنون؟.. واحد من الأسئلة الخفية في عرض تشيكوف لحالات مجانين «العنبر رقم 6».. الزوائد البشرية المنسية كفضلات تخلص منها المجتمع، حيث لا علاج، ولا رحمة.. هذا هو النظام كما يمثله الحارس «نيكيتا»، أما بقية الأسئلة عن معنى الأم والسعادة والحياة، فسوف تتعلن عن نفسها في صدمة اللقاء بين الطبيب والمريض، وغدا نتابع [email protected] اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة