كتبت مقالاً على صفحات "المصري اليوم" قبل قيام الثورة، بتاريخ (24- 12- 2010)، وكان بعنوان ((وفاة أمي))، وكنت أقصد "مصر" بتلك بالوفاة، ونال إعجاب الكثيرين بالرغم من أنه صيغ بكلمات غير واضحة، وكانت مجرد تلميحات عن أشخاص يصعب على المرء فى هذا الوقت أن يجرؤ ويتطاول بقلمه على قداستهم ونزاهتهم، وكنت على يقين أنه تنقصني في هذا الوقت الجراءة الكاملة في الذب والدفاع عن تلك الأم (( مصر ))؛ فالكاتب بعد الثورة يختلف عما قبلها، وليس عيبًا أن أعترف بأنه هو الخذلان بعينه؛ فكلنا كنا مشاركين: إما بالسكوت أو الموافقة بالتزام الصمت. فعفوًا نحن الذين صنعنا أمثال ذلك الطاغوت ومن على شاكلته .. وذكرت في بداية المقال أن من كثرة الألم في لحظات الوفاة وانفجار بركان الدماء والظلم وهو مصب نهر الشيظات الذي يروي ظمأ المصريين، هو أقل تشبيه لحال ما كنا نعانيه، وازداد أكثر بعد دماء الشهداء، وانتهت بلفظ أنفاسها الأخيرة على عتبات هذا الرجل العجوز ((مبارك))؛ فهو رب القبة والحامي لها وليس لصها. ثم كان طلب الأم أن تسلم على "إخناتون"؛ لتبعث في نفس الطمأنينة بأنه هو مَن سيحمل على عاتقه ذلك الجسد البالي من تلك الأم. و"إخناتون" اصطلاحًاً هو اسم فرعوني قصدت به ((جمال مبارك))؛ فهو المهدي المنتظر، ولكن هيهات هيهات فقد سحب البساط من تحت أرجل العجوز وعكاز جيمي، وجاءت المفاجأة مني في هذا المقال بالمطالبة بالتذكير بثورة واحدة لمحاربة الفساد والتزوير ولو لمرة واحده وأثرت. وتأتي الأقدار بجناحيها بعدها بحوالي ثلاثين يومًا بتلك الثورة التي قضت على تلك الفئة المجتمعة على دمار مصر. ودعوني أعود بكم إلى تتمة التصور الذي دار بذهني، حينما كان يسألني أحد الأصدقاء عن فرار العلماء من أرضها؛ فأجبت: بالقمع الواضح الذي كان يلاقوه، لا يوفر لهم - يا صديقي - الوضع الكافي من التوقير؛ لأنك معارض لهذا النظام؛ فلذلك يبحثون عن أرض تنحني أمام العلم الذي درسوه، وألحقت بعدها مشهدَ تشييع وفاة الأم التي ماتت منذ أعوام كثيرة، ولم يكرمها أهلها بالدفن إلا قريبًا؛ وذلك لأن أهلها أهملوها وتركوها، وباعتها حكومتها، وأولادها فقدوها ونسوا جميعًا أنها هي السبب الرئيس في تلك المناصب التى وصلوا إليها، ولكن ((أمام التفاح وأكل الخيار)) هو مادة رقم واحد في القوانين التي تبني عليها الإدارة خطتها ... ونستمر بكم أيضًا في ذلك التصور إلى لحظة تشييع جثمانها بدون صلاة، وهذه هي الطامة الكبرى برغم أنها مولد الأديان، وفي ذلك دلالة على عدم الاهتمام بالدين وعدم إجراء الحوارات والنقاشات التى تبرز حقيقة الأديان، ثم نجد بعدها أربعة رجال يحملون الجثمان، ويلقون بها كالقمامة في صناديق اقتراع الفساد، بل ولا يكتفون بذلك، بل يحرقونها ويكأنهم هندوس مصر، وأقصد بهم (سرور – شريف – عزمي – عز)؛ فهم القادة في كتائب مبارك الفاسدة. ثم تعود الحياة لمصر – حسب تصوري – بروح وصورة مشرقة وجميلة، تجعلها تستعيد شبابها وزهرة حياتها و أيام عمرها الأولى، التي صنعت فيها مجدها، وحفرت لاسمها مكانًا بارزًا، ثم ترمي – مصر – بنظرها إلى أولادها، وهي تتعجل: "إلى هذا الحد كنت رخيصة، وليس لي ثمن عندكم؛ قتلتم كبريائي ورميتموني بأسهم مسمومة، وتوجتم على خدي رجالاً ما هم بشرفاء". كان هذا لسان حال مصر قبل الأحداث الأخيرة؛ التي فوجئ الفاسدون بها، ولسان حالهم: أحق ما نرى؟! هل مصر ستعيش – فعلا – عصر الحرية؟ وأنهيت مقالي باستفسار لي: هل كان هذا التصور واقعا صادقًا أم كان تخيلا مستحيلا؟ وهل حقًا سيرضع الابن من تلك الأم كما رضع الأب من قبل؟ وقد باتت الإجابة وليدة محل انتظار قطار رحيل مبارك، ولكن الإجابة الآن تغيّرت بكل المقاييس؛ فقد باتت محل انتظار المحاكمة الشعبية والقانونية العادلة لهؤلاء الفاسدين... وهل سيحكم على مبارك بالإعدام؟ أم أنه سيرحل عن الحياة قبل أن يواجه المصير الذي واجهه صدام حسين بكل ثبات وقوة؟ ... سؤال يطرح نفسه. [email protected]