قد لا نستطيع أن نصل إلى رشاقة التعبير وبراعة التصوير الذى وصل إليه شاعرنا الكبير «شوقى» عندما قال: انظر الكون وقل فى وصفه فقدا الجنة فى إيجادنا كل هذا أصله من أبوين ونعمنا منهما فى جنتين ومع هذا فلن نخالف جادة الصواب إذا نظرنا إلى هذا الكون وما يحفل به من بيوت ومصانع وطرق وحدائق ومستشفيات ومساجد ومكتبات ومعاهد وإلى الأنوار التى تشق الظلمات، والسفن الماخرات البحر كالأعلام، والقطارات، والطائرات، وقلنا «كل هذا أصله من العمل». نعم إن العمل.. والعمل الدائب المستمر هو الذى أقام البيوت وشق الطرق وأحال الصحارى القاحلة إلى مدن آهلة ووضع وسائل الانتقال والاتصال من العجلة البدائية إلى الطائرات والكومبيوتر والتليفزيون، وهو الذى يوفر يوما بعد يوم للملايين من الناس مأكلهم ومشربهم وما يحتاجون إليه فى حلهم وترحالهم، عملهم ولهوهم. إن المجتمع الحديث يختلف اختلافا جذرياً عن المجتمع القديم البسيط المحدود الاحتياجات، فالثورة الصناعية لم تكن صناعية فحسب، وإنما كانت ثورة فى حياة الشعوب والجماهير وطرق معيشتها من يقظة الصباح حتى رقدة المساء، و«تمحورت» هذه الثورة حول العمل والصناعة والإنتاج وسارت يداً بيد العلم مع العمل، وخاضت أوروبا معركة طويلة صعبة من منتصف القرن الثامن عشر حتى الآن لتوجد هذا المجتمع الحديث وتضع وسائل وطرق ونظم وسياق وأسرار العمل التى يقوم عليها هذا المجتمع وتحقق له الكفاية، ومن المحتمل أنها أخطأت ولكن المأخذ فى تجربتها جاء على نقيض كل تجارب البشرية السابقة، أنها أنتجت أكثر وأن الوفرة وليست الندرة أصبحت المشكلة وتلك قضية التوزيع وليست قضية الإنتاج وهى- بعد- توضح مدى مقدرة «العمل» الحديث. هذه هى يد العمل الساحرة والمبدعة وأثرها فى إيجاد المجتمع الأوروبى وتقديم النمط الحديث للحياة، فإذا انتقلنا إلى المجتمعات الإسلامية فسنرى من النظرة الأولى أن من أكبر العوامل التى تؤدى إلى تخلف هذه المجتمعات انحطاط مستويات العمل وضحالة درجات المهارة وسوء المعاملة وعدم ملاحظة ما ينبغى للأداء من دقة وعناية، والعجز عن ملاحقة السياق الحثيث الذى تتطلبه الصناعة وما إلى هذا كله مما يلمسه كل واحد تقريباً كل يوم، مما كان له أسوأ الآثار، لأن العصر الحديث يتطلب مستوى رفيعاً من الفنية والتخصص وإحكام العمل والعلم بأسراره ودقائقه والتوصل إلى أعماقه وتوفر حاسة التوقيت والسرعة التى هى سمة العصر وطابع سياقه، والتى تجعل للثوانى، فضلا عن الدقائق- أهمية وتقديراً، مع القدرة على استخدام ما توصل إليه العصر من معينات ومعدات ووسائل فائقة الفنية وقائمة على النظريات العلمية والأساليب التكنولوجية من كومبيوتر وحاسبات آلية...إلخ، ولا يغنى عن هذا كله المعرفة السطحية أو «الفهلوة» أو الاجتهاد دون القاعدة العلمية والممارسات الفنية. وأدى تخلف المجتمعات الإسلامية فى هذا المضمار، وما يتضمنه من إنتاج وصناعة ومهن وخدمات، إلى ضعفها واستكانتها أمام الدول الأخرى وعجزها عن معايشة العصر معايشة إيجابية، أو استخدام آلاته ومعداته التى أصبحت نوعاً من لغة العصر فكأنها أصبحت عجماء وسط المتكلمين، عالة بين المستقلين، ورضيت أن تكون من الخوالف ولجأت الدول الغنية نسبيا منها إلى استيراد كل شىء من الدول الأوروبية وأذعنت راغمة لدفع الأثمان الباهظة التى تطلبها والنزول على شروطها المجحفة التى تذل كرامتها وتستنزف ثروتها ثم لا تأمن بعد هذا كله على استقلالها أو سلامتها. حتى الزراعة التى هى الحرفة التقليدية فى المجتمعات الإسلامية والتى كانت تكفل لأهلها الغذاء وتصدير جزء كبير من الحاصلات- زحف عليها التخلف ولم تستطع أن تساير التقدم الذى جعل من الزراعة (كما جعل من كل شىء تقريباً) علماً وصناعة، ووصل التدهور والعوز والتخلف بهذه المجتمعات أن أصبحت تستورد رغيف عيشها ومادة قوتها من الدول المتقدمة، وأصبح القمح سلاحاً تشهره أمريكا فى وجوه هذه الدول. ولهذا التخلف فى مجال العمل والصناعة والمهارات أسباب عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكن من الأسباب التى لم تظفر بالاهتمام أو تتوجه إليها عناية الباحثين أن العمل قد حُرِمَ دفع ومساندة القِيَم الإسلامية، وتجرد من طابعه ودوره الإسلامى ففقد بهذا أكبر وازع يصلح الخلل ويستدرك القصور ويكون قوة دافعة نحو استكمال ما ينقصنا واستدراك ما يفوتنا. ولعل من أدلة هذا الإغفال أننا لا نرى اهتماما من الهيئات الإسلامية ومن الدعاة الإسلاميين بهذا المجال، ولا نرى فى المكتبة الإسلامية ما يتناسب مع أهميته من الكتب والرسائل ولا نجد فى الهيئات الإسلامية عناية به، وقد كاد الإسلام أن يصبح مجموعة من شعائر العبادة وأن يقتصر على أداء الطقوس والفرائض الدينية من صلاة أو صيام أو حج، وحول هذه الموضوعات وحدها تدور الاهتمامات وتتركز المؤلفات وأصبح الناس لا يعلمون من وسيلة للتقرب إلى الله إلا العبادات من صلاة أو صيام أو حج ولا يخطر فى بالهم أن إتقان العمل وإحسان المعاملة وإدراك المهارات الحديثة فى الصناعة التى تحقق العزة والكرامة للمسلمين تماثل الشعائر وتعد فى الإسلام شقائقها ويثيب الله عليها مثل ما يثيب على الصلاة والصيام. وكان لهذا الفهم الضيق آثار سيئة إذ حرم العمل من دفع أعظم المقومات وأعمقها تغلغلا فى شخصية المسلمين وأكثرها تأثيرا عليها ألا وهو الإسلام، وقد أثار انتباهى ما قرأته فى يوم ما للأستاذ صلاح منتصر فى جريدة «الأهرام» فى 30/12/1980م ص7 «أن يتقنه ..» من أن أحد النوادى قرر صنع عدد من اليافطات الصغيرة تحمل الأثر (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، واتفق مع أحد الصناع على ذلك ولكن الصانع أخذ يماطل ويسوف يوماً بعد يوم حتى قال مندوب النادى إن هذه اليافطة تحمل حديثاً شريفاً يحث على الإتقان فتنبه الصانع الذى لم يكن قد ألقى بالاً إلى ما أريد كتابته على اليافطات ووعد مندوب النادى بانتهاء العمل فى اليوم التالى ولما مر مندوب النادى وجد اليافطات جميعاً على أحسن حال وأفضل مما طلبه واعتذر الصانع بحرارة عن تقصيره لأنه لم يلحظ الحديث، وقال «أنا بصراحة لما قريت الحديث الشريف ده تأثرت جداً». وقد كان قيام «الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل» أول خطوة عملية وتنظيمية لسد تلك الفجوة التى فصلت ما بين الإسلام والعمل وأبرز الاتحاد- فى عدد من رسائله- العلاقة الوثيقة التى تربط عالم العمل بالإسلام، بل أثبت أن «النقابات» ليست طارئة على المجتمع الإسلامى فقد كانت موجودة بل.. نقلتها أوروبا عنه، كما أن الأهداف التى تدعو إليها النقابات هى نفسها الأهداف التى يدعو إليها الإسلام. وقد عُنى الاتحاد بادى ذى بدء بعلاقات العمل وضرورة تسويتها على أساس العدل الإسلامى ليمكن حسم شأفة الخلافات ما بين العمال وأصحاب الأعمال من إضراب أو إغلاق، تحقيق السلام الاجتماعى والاستقرار الذى يمكن العمال من العمل للنهضة ببلادهم وتحقيق خطط تنميتها مع نيلهم- فى الوقت نفسه- حقوقهم المشروعة. واليوم نعنى بجانب آخر من قضية العمل هو «تعميق حاسة العمل» فى المجتمع الإسلامى وإبراز الأهمية القصوى للعمل ودوره فى حياة الفرد والمجتمع، وأن الموقف الذى يتفق مع الإسلام ليس هو الانعزال أو السلبية ولكن المشاركة فى الحياة النشطة الزاخرة التى تموج بها جنبات المجتمع الحديث من علوم وفنون وصناعات ومهارات، وضرورة تصحيح نظرة المسلمين إلى العمل طبقا لتوجيهات الإسلام من تفان وإخلاص وإتقان واعتبار الحياة الدنيا بأسرها معركة فى سبيل العمل الصالح. إن تعميق حاسة العمل فى المجتمع الإسلامى يعنى شيئاً أعظم بمراحل مما يتصور الناس، إن العمل مصداق الإيمان فى الحياة الدنيا ومعيار الثواب والعقاب فى الحياة الآخرة، ووسيلة القوة والعزة للدول الإسلامية التى تخلفت عن التقدم الحديث فى مجالات العمل والخدمات والمهارات. فبعد القضية الأولى والرئيسية التى تجابه المجتمع الإسلامى، قضية حسن فهم الإسلام التى تحل لنا مشكلة «النظرية» والمسألة الحضارية والمعنوية، ويمكن أن نرمز لها بالإيمان- تأتى مباشرة قضية العمل التى تحل لنا مشكلة التخلف والضعف والمهانة، ويمكن أن نرمز لها بالجهاد، فاليوم يكون العمل لإدراك العلوم والفنون ونيل المهارات فى الصناعة والزراعة والخدمات واستدراك التخلف الاقتصادى والاجتماعى، ووضع هذا كله فى خدمة الإسلام والمسلمين ولإعلاء كلمة الله، هو الجهاد حقاً ويصبح أقرب التطبيقات للمعيار الذى وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الجهاد فى سبيل الله فقال «من جاهد لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله»، كما أنه التصديق الواقعى للجمع القرآنى المتوالى بين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. [email protected] [email protected]