رحل عن عالمنا، أمس الأول (الاثنين)، الفيلسوف والمفكر المغربى الكبير الدكتور محمد عايد الجابرى، الذى وافته المنية عن عمر يناهز 75 عاما قدم خلاله للمكتبة العربية عشرات الكتب المهمة فى قضايا التراث والديمقراطية وحقوق الإنسان وفلسفة العلوم وغيرها من الموضوعات بالغة الأهمية. ومع ذلك تظل ثلاثيته «نقد العقل العربى»، التى تشمل: «تكوين العقل العربى» و«بنية العقل العربى» و«العقل السياسى العربى»، هى الأهم والأشهر. لم يعش الجابرى داخل «صومعة» أكاديمية معزولة عن واقع مجتمع مغربى ترعرع فيه، ولا عن واقع أمة عربية وإسلامية أوسع انتمى إليها فكرا وحضارة، والتزم بالدفاع عن قضاياها، فقد بدأ حياته ناشطا سياسيا، وأصبح أحد القيادات البارزة فى حزب «الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية»، وظل عضوا فى مكتبه السياسى لفترة طويلة، قبل أن يقرر الاعتزال منذ سنوات ليتفرغ لمشاغله الفكرية والأكاديمية. انشغل الجابرى كلياً بأزمة الثقافة العربية وجعل من «محنة المعرفة» فى العالم العربى، الناجمة عن عدم تحديث التراث، مشروعا بحثيا أفنى عمره فى وضع لبناته الأولى وسعى بصبر وأناة لاستكمال طوابقه، التى ظلت تعلو تباعا حتى آخر رمق فى حياته، آملا فى أن يسهم فى «تدشين عصر تدوين جديد»، كما كان يحلو له أن يقول. أقتبس هنا فقرة من حوار مطول أجراه معه الدكتور عبدالإله بلقزيز، ونُشر فى مجلة «المستقبل العربى» (العدد 278)، أظن أنها تعكس بالضبط جوهر مشروعه الفكرى: «كانت هناك ثلاثة تيارات معروفة، هى التيار السلفى والتيار الليبرالى والتيار التوفيقى أو التلفيقى. وقد أسفرت تجربة مائة سنة عن جمود الحركة فى هذه التيارات، فلا أحد منها تطور وحقق أهدافه، بل كان ما حدث هو اجترار وعَوْدٌ على بدء مستمر. وقد استنتجت من ذلك القضية الأساس التى أدافع عنها، وهى أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعاً معاصراً لنا، وفى الوقت نفسه بالحفاظ على معاصرته لنفسه ولتاريخيته حتى يتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به!. وهذا هو التجاوز العلمى الجدلى. هذا هو اقتناعى إذا كنا نفكر فى الأمة العربية والإسلامية كمجموع وليس كنخبة محدودة العدد متصلة ببعض مظاهر الحداثة، تنظر إلى نفسها فى مرآتها وتعتقد أن الوجود كله هو ما يُرى فى تلك المرآة. هذا فى حين أن هذه النخبة قليلة، ضعيفة الحجة أمام التراثيين. والمطلوب منا فيما يخص الحداثة ليس أن يحدّث المحدثون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق، والنطاق الأوسع هو نطاق التراث. فإذا لم نكن على معرفة دقيقة بالتراث وأهله فكيف يمكن أن نطمع فى نشر الحداثة فيه، أن نجدد فيه، أن ندشن عصر تدوين جديد فى مجالاته». أدرك أن الرجل تعرض مؤخرا لهجوم حاد من جانب السلفيين، لكن الاختلاف لا يكون إلا مع المجتهدين والمجددين الحقيقيين، وكان الجابرى واحدا منهم، وأظن أنه آن الأوان أن نتعلم أن الخلاف لا يفسد للود قضية. رحم الله الجابرى.