فى مقالى السابق «ما يطلبه المشاهدون..» تعرضت إلى ضرورة قيام القوى السياسية بالاشتراك مع الحكومة فى وضع خطة واضحة شاملة للإصلاح على جميع المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأخذت المسار السياسى مثالاً، وسألت بعض الأسئلة، لم تكن بغرض الحصول على أجوبة، إنما إبراز بعض الأمور التى يتعين التوافق حولها، من أجل تحقيق الإصلاح السياسى الأمثل للمجتمع، والتوافق لا يتم إلا من خلال «حوار عام»، والمؤتمر الذى يرأسه الأستاذ الكبير الدكتور يحيى الجمل «مؤتمر الحوار الوطنى»، يصعب أن يعبر عن إرادة الناس، فالقوى السياسية فى المجتمع المصرى ضعيفة، ولا يمكن بشكلها الحالى أن تمثله بأكمله، والحل فى رأيى أن يقوم المؤتمر بخطوة أولى، وهى إصدار «أوراق خلفية» عن المواضيع المعروضة، والإشكاليات المطروحة، والأساليب والبدائل المقترحة، ثم طرح هذه الأوراق على مستوى المحافظات، أو البلاد والأحياء، من خلال نشطاء المجتمع المدنى سواء كانت جمعيات أو مؤسسات أو منظمات، وتقوم بتشكيل مجموعات حوارية من الشباب والسيدات ومختلف الفئات، تناقش المسائل المطروحة فى ظل «الأوراق الخلفية» التى أصدرها مؤتمر «الحوار الوطنى العام»، وتطرح خلاصة هذه الحوارات عليه، وإن تم ذلك فإننا نكون قد ضمنا أن نتائج الحوار العام لم تأت بمعزل عن وعى وإرادة الناس، خاصةً أن الثورة أيقظت فى الشعب «هويته الوطنية» بعد أن كنا فقدنا الأمل منها، وأثبتت أن الشعب قادر على استعادة وعى الإصلاح، وأنه غير عاجز عن اعتباره قضية قومية، وأنه مستعد للتفاعل والمشاركة، ومهتم بتغيير حياته إلى الأفضل، وأن «الهوية الوطنية» لديه كانت مختزنة طوال الوقت، وعندما ظهرت تحولت إلى طاقة عظيمة استرد بها سيادته المسلوبة، وأعاد عصمة البلاد إلى يده، تماماً كما حدث فى ثورة عام 1919 التى حولت مسيرة الشعب بأكمله وأيقظت وعيه السياسى، وحركت الجماهير الصامتة فى حينها فانصهروا جميعاً فلاحين وحرفيين، أغنياء وفقراء، مسلمين وأقباطاً، فى بوتقة قضية الإصلاح، غير عابئين بمصالحهم الفردية أو الفئوية، مُؤْثرِين المصلحة القومية، فأنتجت ثورتهم دستور 1923، وأفرزت الأحزاب، منها حزب الوفد، والأحرار الدستوريين، ومصر الفتاة.. أحزاب حقيقية، ساهمت فى تكوين الإرادة العامة للمواطنين وعظَّمت مشاركتهم السياسية فى صنع القرار، وفى ظل عدم وجود أحزاب قوية تعبر عن الإرادة السياسية للمجتمع حالياً، فلا يوجد بديل عن إشراك المواطنين بشكل مباشر فى «الحوار العام»، حتى تأتى مخرجاته أقرب إلى التوافق بين الناس فلا يُختلف عليها هذا الاختلاف الكبير، كما حدث حول «الإعلان الدستورى» و«قانون الأحزاب»، ثم إن فى تنفيذ مثل هذا الاقتراح تنشيطاً للوعى والإدراك السياسى والإصلاحى للشعب، وهذا فى حد ذاته هدف له وزن، ويمهد لتنشيط الحياة الحزبية فى البلاد، وفوق كل ذلك يحافظ على تأجج مشاعر «الهوية الوطنية» فى ضمير المصريين، التى بدونها يكون الإصلاح كالحرث فى الماء.