هل ماتت القصة القصيرة؟ سؤال يحاول النقاد الغربيون الإجابة عنه نتيجة ما يشاهدونه من حالة خصام الناشرين مع كتَّاب القصة القصيرة، لدرجة أنهم يطلقون الآن على القصة القصيرة لقب «عانس الأدب»، نتيجة عدم عقد قرانها على أى ناشر!، وقد تفتق ذهن الكاتبة صوفيا بارتليت عن فكرة عبقرية لإنقاذ هذا الجنس الأدبى الجميل بأن تنشره على الموبايل، وبدأت بالآى فون، وأقنعت دار نشر «إيثر بوكس» بالفكرة وستدشنها فى معرض لندن للكتاب، وبدأ بعض الكتَّاب بالفعل نشر قصصهم ومنهم هيلارى مانتل، الفائزة بجائزة بوكر، التى تحمست للفكرة ووصفتها بالحياة الثانية لقصصها. السؤال الغامض والمحير الذى يفرض نفسه هو: كيف فى عصر التيك أواى وزمن السرعة تنتصر الرواية ويطغى الحكى الطويل والسرد الملحمى على القصة اللقطة الدفقة اللمحة؟!، هل يحتاج القارئ للفضفضة على كرسى اعتراف الرواية بدلاً من الصدمة والمفاجأة بكهرباء القصة القصيرة؟، هل ترسم له الرواية عالماً بديلاً أو موازياً يحتاج فيه تفاصيل التفاصيل، لا يستريح معه إلى ميكروسكوب القصة القصيرة الذى يضخم له تفصيلة فى منتصف لوحة الحياة ويمنعه من مشاهدة أطراف وحدود اللوحة ومتابعة بانوراما المشهد بالتليسكوب؟، لا أستطيع الإجابة عن هذا اللغز ولكننى أعترف بأننى منحاز للقصة القصيرة وعاشق متيم لها ومغرم قديم بكتَّابها وأبطالها. حيثيات دفاعى عن القصة القصيرة وعشقى لها متعددة ومتشعبة، فأنا أعشق حفر كتَّاب القصة الرأسى فى وجداننا وواقعنا وحياتنا، أعشق رصدهم للتفصيلة وتقطير مفرداتها حتى عصارة العصارة، أعشق تصويرهم للنواة التى بها سر الأسرار وقدس الأقداس بأبسط وأقصر الجمل والعبارات، أعشق كراهيتهم للثرثرة والملل، أعشق يوسف إدريس منذ أرخص ليالى، وفتاته النحيفة الممصوصة التى تحمل صاج الكعك، وفلاحه الفقير الذى لا يجد إلا متعة الشاى والجنس حتى يتمكن من الاستمرار فى ساقية الضنا اليومى، وحتى سلطان قانون الوجود الذى رصد فيه لحظة انقضاض أسد السيرك على مدربه بمجرد انكسارة عين!، أعشق يحيى حقى وبطله البوسطجى الحائر بين فضول مسل قاتل للوحدة ولهفة على مصير فتاة شارك فى قتلها بهذا الفضول، أعشق المخزنجى الذى وسع المشهد القصصى وزاده رحابة، فشاهدنا بجانب عالم الإنسان عالم الغزلان والخيول والأسماك وتفاصيل كونية أخرى بمنتهى الرهافة والعذوبة، أعشق يحيى الطاهر عبدالله بشاعريته التى تجعل منه القصاص الوحيد الذى يحفظ قصصه القصيرة، لأنه كتبها بروح حكاء السير الشعبية الصعيدى. القصة القصيرة كالسهم تحمل توتر الانطلاقة اليتيمة المحددة، الرواية كالرشاش من الممكن أن تهدر معظم الطلقات حتى تصيب هدفك، القصة القصيرة فيها كثافة نقطة الدم التى ترسم لك خريطة الجسد كله تحت المجهر، فى القصة القصيرة من الممكن أن تحيط بالسماء بأن تشير إليها بأصبعك وتحتضن المحيط بأن تبلل خصلات شعرك برذاذه وملحه. أتمنى ألا نمشى فى جنازة القصة القصيرة لأننا حينها لن نشيِّعها فقط ولكننا سنشيِّع أنفسنا.