شيء ما. يجعل السؤال عفويا وتلقائيا وسريعا، فور إعلان أحدهم نيته الهجرة: تهاجر وتسيب البلد لمين؟.. جمال بخيت، الشاعر المعروف، كتب قصيدته «أهاجر وأسيبك لمين؟». والتي تحولت إلى أغنية شهيرة قبيل ثورة يناير مباشرة. وهكذا، تحولت الأغنية إلى أسلوب تفكير، بحيث يجد كل مهاجر محتمل السؤال في وجهه.. وكأن ما يمنع الهجرة أن المهاجر لا يجد من يترك له البلاد من بعد رحيله.. هكذا هي الأغاني، شاعرية، عاطفية، وأحيانا كثيرة غير حقيقية. حين جلست مع صديق على المقهى قبل شهور نناقش أحوال البلاد، سألته: نصيحتك الواحد يفكر في الهجرة؟.. رد سريعاً: لأ طبعاً.. لأن الهجرة لا تحتاج إلى تفكير.. الهجرة تحتاج إلى تنفيذ سريع ومباشر.. التفكير لن يؤدي إلا إلى نتيجة مختلفة.. هذه السطور، يكتبها شخص قرر الهجرة ويغادر البلاد في رحلة طويلة قريباً جداً. ولما كان السؤال تكرر أمامه عدد لا نهائي من المرات.. فكان لابد من إجابة واضحة محددة. عزيزتي مصر، أهاجر قريباً، وأسيبك لكل هؤلاء.. (1) أهاجر وأسيبك للمصريين. هكذا نقولها. المصريين، المصريون، أهل مصر، الشعب المصري. هكذا اعتدنا المسألة، أن نتحدث دائما عن المصريين باعتبارهم جمع، جماعة، كتلة كبيرة من البشر. الفرد، الواحد، البني آدم، هو مجرد رقم، شخص واحد داخل مجموعة. جزء من الكتلة الجماعية المجتمعة. لا شيء يذكره وحده، لا أحد يهتم به وحده. والمصريين، كتير، عدد ضخم من البشر. يفضلون الصفات الجماعية. طيبين، متدينين بطبعهم، شعب يحب نفسه جداً لأقصى حد. لا يلصق بنفسه صفة واحدة غير جيدة. وإن ظهر، في وسط الكتلة، فأسد أو شرير. فالرد الجاهز: حالة استثنائية، قلة مندسة، ننزع عنه مصريته، ونطرده خارج الشعب، بحيث يظل الشعب كما هو جميلاً لطيفاً رائعاً. ما الذي سيحدث إن فقدت الكتلة جزءاً ضئيلاً. ما هي أهمية الفرد أصلاً في مجتمع كهذا، يحب الجماعة (غير المحظورة)، يفضل الجمع عن المفرد؟!. لا شيء.. لا شيء على الإطلاق. (2) أهاجر وأسيبك للمسؤولين.. هم، وحدهم، أدرى بالبلاد والعباد. لديهم دائماً نظرياتهم الخاصة، يفهمون مصر جيداً. يرون أجزاء من الصورة يعجز المواطن العادي عن رؤيتها. مثلاً، هناك مسؤول قال قبل أسبوعين: إن إصلاح الطرق سيتسبب في زيادة الحوادث، لأن السائق المصري سيزيد سرعة سيارته على الطريق السليم، في حين أن الطريق الفاسد المكسر، يجبره على الالتزام بالسرعات المقررة.. سأهاجر وأسيبك لهذا المسؤول العبقري، الذي لا يزال مكانه، لم يعاقبه أحد، لم يعزله أحد، لأن ما قاله يبدو متسقاً مع الطريقة العامة التي يدير بها السادة المسؤولون البلاد. هذه ليست نغمة شاردة، ليست خروجاً على النص. بل هي فكرة في صميم المنظومة. التغيير، وإن كان للأفضل، سيؤدي لمزيد من الكوارث. وأنا، كمواطن فرد، وحيد بسيط، أرفض أن أهدر ما تبقى من سنوات شبابي القليلة داخل هذه المنظومة العبقرية. (3) أهاجر وأسيبك للإخوان المسلمين.. عندما قال مرشد الإخوان السابق، مهدي عاكف، «طز في مصر»، في حوار صحفي أجراه عام 2006. قامت الدنيا ولم تقعد. هاجمه الجميع (وكنت منهم)، وقد خرج الرجل بعدها ينفي، ويؤكد أن كلامه نزع من سياقه، وأنه لم يكن يقصد تحديداً ما فهمه الجميع. وقتها، كنت أفضل لو أنه قال الحقيقة. لو أنه صارحنا بوجهة نظره الكاملة. لو أنه أعترف بأنه يقصد تماماً ما قال، وأنه مسؤول وجماعته من خلفه عن تصريحه المثير. على الأقل، كنا وفرنا على أنفسنا كل الوقت الضائع في محاولات فهم كيف تفكر جماعته وماذا تريد تحديداً. كنا فهمنا بشكل أوضح موقع الجماعة من الثورة التي حدثت بعد ذلك بسنوات قليلة. كنا حسمنا الأمر مع أنفسنا، صارحنا بعضنا بالحقيقة، هناك جماعة في مصر ترى أن مصر ضيقة عليها، أنها وأفكارها أكبر من البلد. بينما يرى طرف آخر أن مصر كبيرة عليهم، أوسع من أن يحكموها ويسيطروا عليها.. كنا وفرنا على أنفسنا هذا الجدل حول حجم مصر.. كبيرة؟!، صغيرة؟!. وكأن الحجم يشكل فارقاً. الآن، قيادات الجماعة وأفرادها في السجون. بعد أن كانوا قبل عام في القصور. وستمر أعوام أخرى، كثيرة وطويلة، قبل أن يقرروا الإعتراف بأنهم كانوا على خطأ. بأن فكرتهم ربما كانت غير مناسبة لمصر، وسندفع نحن خلال هذه المدة ثمن حرب لم نخترها بالأساس. أهاجر - عزيزتي مصر - وأسيبك لهذه الحرب.. عفواً لست جزءاً منها. (4) أهاجر وأسيبك للإعلاميين.. وكما تعرفين، فإن شاشات التليفزيون مليئة بأشخاص يتحدثون يومياً حتى ساعات متأخرة من الليل، عن مصر التي في خاطرهم، مصر التي يفضلون. لعلك لاحظتي أنهم جميعاً يبدون وكأن شيئاً ما يعكر صفو حياتهم، شيء ما يزعجهم، يضايقهم، صوتهم عالي جداً. انفعالاتهم دائمة. غاضبين، ساخطين، يملكون الحقيقة المطلقة.. لا أحد يملك حق الاختلاف معهم. بصراحة. لم أكن أجد في البداية مبرراً لانفعالهم وغضبهم. بمرور الوقت شعرت وكأن أزمتهم مع القلة القليلة التي لازالت غير مقتنعة تماماً بما يقولون. وقد وجدت نفسي واحداً من هؤلاء. لا زلت غير قادر على تصديق حقائقهم المؤكدة النهائية غير القابلة للتشكيك أو الاختلاف أو حتى النقاش.. دائماً، يعلنون أنهم يحبون مصر جداً، جداً جداً، وكأنها مسابقة، من يحب مصر أكثر؟، المذيع الفلاني؟، أم المذيعة العلانية؟.. لا أحد يتحدث عنا، لا أحد يتحدث عني، أسيبك لهؤلاد، فقد صرتي تشبهينهم تماماً.. منفعلة، غاضبة، تملكين وحدك الحقيقة المطلقة.. (5) أسافر وأسيبك لخارطة الطريق، للمشروعات القومية الكبيرة، لقناة السويس الجديدة، للحرب اللانهائية على الإرهاب، لكمال الجنزوري قائداً لتحالف انتخابي في البرلمان الذي يقال إن الرئيس يفضل أن ينال الشباب فيه كتلة كبيرة، لفايزة أبوالنجا مستمرة إلى ما لا نهاية. لقانون التظاهر بنسختيه.. ذلك أن مصر يحكمها قانونان للتظاهر، واحد أصدرته السلطة للحد من التظاهرات في الشوارع، وآخر أصدره المجتمع، قانون التظاهر المجتمعي بأن كل شيء على ما يرام، بأن بكرة أحلى، والمستقبل أفضل، ومصر فوق الجميع، وتسلم الأيادي وبشرة خيرة، ومتقولش إيه إدتنا مصر.. قول هندي إيه لمصر.. وبصراحة مطلقة، وبعد مراجعة دقيقة ومركزة، أنا كمواطن أعلنها صريحة بأني لا أملك أي شيء يصلح بحيث تأخذه مصر مني. وما فكرت وغيري من الشباب أن نقدمه لها سابقاً.. رفضته مصر بضمير مستريح. واعتبرت الحكاية كلها مؤامرة خارجية تهدف لإسقاط الدولة.. أسيبك يا مصر لأن لديك مشكلة ما مع «عيش حرية عدالة اجتماعية»، لأن هذه الكلمات تبدو أصعب من أن يتم فهمها ببساطة. لأنها موضع نقاش، جدال، تفاوض، لأنها أصبحت معقدة جداً. وكنت أظنها أبسط وأسهل. (6) كما تلاحظين، ولعلك تأكدتِ الآن. فلا قيمة ولا معنى حقيقي في سؤال: أسيبك لمين؟!.. بل لعلي محتارا، أسيبك لمين ولا مين.. مليئة أنت بكل ما سبق.. وجميعهم لن يلاحظوا حتى اختفاء بعض المواطنين بالهجرة إلى خارج البلاد.. بعضنا هاجر وهجر البلاد داخلها. سكت، وانفصل عن الحكاية كلها.. قبل عامين وأكثر، ولم يلاحظ أحد.. عزيزتي مصر، السؤال بحاجة إلى تصحيح.. السؤال لك أنت، ولكل من وردت أسماؤهم في السطور السابقة: ما الذي يجب أن يمنعنا فعلاً من الهجرة؟!، ما المهم والمفيد الذي نفعله حالياً بحيث يتعطل حال هجرتنا؟، ما الأمل الذي يمكن أن نعيش به في أيامنا القادمة؟، إن لم تكونوا تريدونا مهاجرين، فأي شيء تحديداً تتوقعون أن نفعل؟ أين مكاننا؟.. تمنياتي بالتوفيق، وعسى أن نلتقي يوماً في ظروف أفضل وأنسب.. اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة