حين تكتب عن محمود درويش فى ذكرى رحيله هل عليك أن تبدأ بذكر تاريخ ميلاده وتاريخ الوفاة؟ وكأنه بالفعل مات، يقينا أنه لم يمت، ما زال بيننا يتنفس شعرا وألما وحلما، مازلنا نبحث بين قصائده عن أسئلة لم يأت بعد أوان إجاباتها، نحنّ إلى خبز أمه وإصراره على أن يكون ما يريد، ومازلت أريد أن أعرف عنه المزيد: كيف كان مذاق قهوته الصباحية التى كان يحرص على أن يعدها بنفسه؟ وكيف كان يشعر حين يسجل بالقلم الحبر الأزرق شعرا لا يشيخ مع الزمن؟ كيف كان قلبه المريض يحتمل كل هذا الألم وكل هذاالحب؟ درويش لم يكن يحب أن يخوض فى الحديث عن حياته الخاصة، فهو راهب فى محراب القدس، فلسطين أمله وفلسطين ألمه. قال عن نفسه يوما: أنا من مواليد برج الحوت، وهو برج متقلب..عشت قصص حب كثيرة لكنني لم أعش قصة حب كبيرة. ومولود برج الحوت شغوف وعاطفي والحب بالنسبة له كماء الحياة فالحوت مائي لا يعيش من دون حب ولو في الخيال. وهذا البرج العاشق لا يحب مرة ولا مرتين بل مرات، وفي كل مرة يكون مخلصا للحب لا للحبيب. هل كان درويش بالفعل عاشقا سيئ الحظ ؟ أم كان محظوظا لكثرة ما عرف من الحب؟ ....هل عرف الحب يوما أم أنه كان يبحث عن حب مثل حب حورية ولم يجد؟ لا أحد يختار الوقوع فى الحب ولا أحد يختار فراق الحبيب، الحياة علمت درويش أن قدره أن يمضي وحيدا رغم كل هذا الحب الذي أحاط به منذ شبابه المبكر وحتى وفاته....رحلة سأحاول أن أرصدها من خلال شعره عن الحب. درويش في العشرين غير درويش الستيني، يبدأ الإنسان حياته بالأمل وينتهى بالحكمة.... حين كان درويش في أوائل العشرينيات كان يظن أن الحب دائم، كما فى قصيدة «أجمل حب» التي يقول فيها: كما ينبت العشب بين مفاصل صخرهْ وُجدنا غريبين يوما وكانت سماء الربيع تؤلف نجماً.. ونجما وكنت أؤلف فقرة حب.. لعينيكِ... غنيتها! حبيبان نحنُ إلى أن ينام القمر صديقان نحن، فسيرى بقربيَ كفاً بكف معاً, نصنع الخبز والأغنيات معاً، للأبد كما ينبتُ العشبُ بين مفاصل صخره وجدنا غربيين يوماً ونبقى رقيقين دوماً. كان أول حب لدرويش حبا محكوما عليه بالفراق، حبه لتمارا الفتاة اليهودية التى كتب عنها قصيدته المشهورة: ريتا والبندقية بين ريتا وعيوني... بندقيَّة والذي يعرف ريتا, ينحني ويصلي لإلهٍ في العيون العسليَّة! ..وأنا قبَّلت ريتا عندما كانت صغيره وأنا أذكر كيف التصقتْ بي, وغَطَّتْ ساعدي أحلى ضفيرة وأنا أذكر ريتا مثلما يذكر عصفورٌ غديرَهْ آه.. ريتا بيننا مليون عصفور وصوره ومواعيدُ كثيرة أطلقتْ ناراً عليها.. بندقيَّة بعد سنوات كتب قصيدة: ريتا.. أحبينى، ولكن ليست هي نفسها ريتا، ريتا الثانية لم تعد شخصا بل حالة.... الحب في زمن الكراهية والحرب. في منتصف السبعينيات، كان درويش في الثلاثينيات، حقق نجاحا كبيرا كشاعر المقاومة، في هذا العمر تفكر في المستقبل، تمر على خاطرك فكرة البيت والاستقرار، ورغبة في امرأة واحدة تمثل كل بنات حواء، اختار محمود درويش رانا القباني (ابنة أخي نزار قبانى) لتكون زوجته، امرأة جميلة ومثقفة وطموح.... لم تنجح التجربة ولم يدم تأثير القصيدة التى كتبها لها ويقول فيها: كُلُّ خوخ الأرض ينمو في جَسَدْ في أوائل الثمانينيات وقع درويش في حب مصرية رقيقة وجميلة هي حياة الهوينى، ألهمته قصيدة يطير الحمام: يطيرُ الحمامُ يَحُطّ الحمامُ أعدّي لِيَ الأرضَ كي أستريحَ فإني أحبّك حتى التَعَبْ.. وجاءت وفاة صديقه معين بسيسو وحيدا في غرفته في أحد فنادق لندن لتوقظ في نفسه فكرة الرفقة والاستقرار على صدر امرأة بديلة للوطن البعيد، تجربة الزواج الثانية لم تكن أنجح من الأولى، ولم يستمر مع المرأة التي قال عنها: أنتِ بدايةُ روحي، وأنت الختام. أدرك درويش أنه خلق للوحدة الثنائية، وعاش لحب يعرف بدايته ولا يشعل باله بالنهاية، فهي آتية لا محالة، وتحدث في كثير من قصائده الشعرية عن تجاربه العاطفية، فتجده في قصيدة: أنا العشق سيئ الحظ يقول: كم امرأةٍ مزقتني كما مزَّق الطفل غيمةْ فلم أتألم، ولم أتعلَّم. ولم أحْمِ نجمهْ من الغيم خلف السياج القصيّ. وقلت كلاما لألعبَ. قلت كلاماً كثيرا عن الحبِّ كي لا أحبَّ، وأحمي الذي سيكونُ من اليأس بين يديّ. ديوان «ورد أقل» فيه كثير من قصائد الحب، ربما قصص حب عاشها شاعرنا ولكنها حب عابر، فالقصائد قصيرة مبتورة, في الديوان قصائد: يعلمني الحب أَلا أحب، خريف جديد لامرأة النار، خسرنا ولم يربح الحب، أستطيع الكلام عن الحب. ولكن في ديوان أحد عشر كوكبا نشر قصيدة: في الرَّحِيلِ الكَبِيرِ أُحِبُّكِ أَكْثرَ. تجربة الحب هذه المرة كانت أكثر قوة وتأثيرا، فى الخمسين من العمر يكون الحب أكثر التصاقا بالقلب والروح، فدرويش يشعر كالآخرين أن التجارب الباقية أقل من التى مضت، ويدرك أنه لم يعد يريد من الحب غير البداية ويكتب عن ذلك المعنى قصيدة رائعة بنفس الديوان. وبعدها بسنوات قليلة وفي ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا» الذى صدر عام 1995 يكتب عن أيام الحب السبعة، ينهيها بتلك الأبيات: أمر باسمك, لا جيش يحاصرني ولا بلاد. كأني آخر الحرس أو شاعر يتمشى في هواجسه... لم يعد الحب يقينا عند درويش ولاعند من يحب ويعشق، في ذلك الوقت كان درويش يعاني من مشاكل صحية انتهت بإجراء ثاتي عملية له في القلب عام 1998، نفس عام صدور ديوان (سرير الغريبة) الذي كان أول كتاب للشاعر يكرس للحب كلياً, وكأنه يعتذر للحب... الحب الذى أعطاه ظهره كثيرا من أجل ما رآه أبقى وأهم .... وهو على فراش الموت أدرك ربما للمرة الأولى أن القدرة على الحب شكل من أشكال المقاومة، يفترض أن يكون الفلسطيني مكرسا نفسه لموضوع واحد وهو تحرير بلده، ولكنه وجد أن هذا سجن يحبس فيه نفسه، وأن الفلسطيني كغيره يحب, ويخاف الموت, ويريد أن يتمتع بتفتح أولى زهور الربيع وجلسة بصحبة الأصدقاء فى مقهى مزدحم. سرير الغريبة يؤرخ لمرحلة جديدة في حياة درويش العاطفية... العاشق السيئ الحظ يعيد اكتشاف الحب في حياته... وللحديث بقية في مقال الثلاثاء القادم بإذن الله. [email protected] اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة