كان سمير غانم يأخذ الحياة بخفةٍ تَصِل إلى درجة الهَزَل، وفهمي عبدالحميد يأخذ الهَزَل بجديَّة، ويُحاول أن يصنع منه فَنَّاً يَعيش، لقاءهم كان فُرصة مثالية لخلقِ شيئاً للذّكرى. «سمير»، هو فرد الثلاثي الأقل تقديراً خلال الستينيات، لدرجة جعلت الكاتب الساخر محمود السعدني يَصفه، في كتابه المضحكون الذي صدر في مايو عام 1971، باعتباره «كداب الزفَّة» بين الثلاثي، اعتبر أن «الضيف أحمد مُضحكاً بالفِطرة»، وأن «جورج سيدهم ممثلاً وموهوباً»، في حين رأى «غانم» «ليس جورج أو الضيف، ولكنه معهم، ولكي يستمر يجب أن يكون مع أحد»، وما جرى خلال العقودِ اللاحقة أن الضيف أحمد رَحَل، وجورج سيدهم تَوارى، وسمير غانم فقط من استمر. هَزلية سَمير هي السبب الحقيقي في استمراره، الطريقة التي يتعامل بها مع الدُّنيا «دون أن يأخذها على صدره»، كما يصف نفسه في لقاءٍ إذاعي في السبعينات، هو يعرف أنه فنان كوميدي، أو –بوصفه أيضاً- «مضحَّكاتي»، «كدَّاب زفَّة» بصورته الكلاسيكية، يخرج عن النَّص والمِساحات لأن وظيفته الوحيدة أن يُضحك الناس، وهو يَرغب في إضحاكهم حتى لو تَشَقْلَب قدماً فوقَ رأس، حتى لو شارك في عددٍ كبير من أفلام المُقاولات، حتى لو تنقَّل بين أفلام البطولة والأدوار الثانية دون حسابات مُعقَّدَة للنجومية أو السوق، وهذا القدر من الهَزَل جعله لا يُمانع أبداً في أن يقوم بدورِ قزم صغير وخيالي يُدْعَى «فطوطة»، دون اقتناع حقيقي باحتمالية نجاحها، أخبر المخرج فهمي عبدالحميد حين اقترح عليه الأمر لأول مرة «وماله؟! نجرَّب». فهمي عبدالحميد في المُقابل لم يَرغب في أكثر من (التجربة)، الرجل الذي حقق طَفْرَة في التلفزيون المصري خلال السبعينيات، وجعل من الفوازير الرمضانية فناً مختلفاً وجزءً أساسياً من العادة المصرية، كان منذ بداية حياته (يُجرّب)، مسيرته المهنيَّة بالتلفزيون المصري، تدرُّجه في قسمِ الرسوم المتحرَّكة، حماسه لتقديم الفوازير مع نيللي، الرسوم والشخصيات الخيالية والمؤثرات البصرية المُبهرة تبعاً لزمنها، كل شيء يَخضع للتجربة واللَّعب، دونَ خجل أو خوف، يأخذ «فن الترفية» بجديةٍ تامة، ويُحاول تَطويره طوال الوقت، ولذلك ففي ذَروة نَجاح فوازيره مع نيللي قرر أن يقوم بتلك النقلة المفاجئة، وأن يَصنع فوازير رمضان مع سمير غانم. كانت الفكرة في البداية للكاتب عبدالرحمن شوقي، وهي تقديم شخصية البحَّارة ابن بطّوطة ورحلته حول العالم في شكلٍ مُسَلّي، تحمَّس فهمي عبدالحميد كثيراً، لم يتحمّس سمير غانم ولكنه قرر خوض التجربة، والمُحصَّلة الأولى لم تكن جيدة، ملابس «بطوطة» السوداء خلقت مشكلة حقيقية في «الصورة»، فهمي عبدالحميد كان لديه حسَّاً عالياً بالمشاهدين، أكد أنهم لن يتفاعلوا مع شخصية بهذا الشكل الكئيب، ومن جديد قرَّر التجريب: لماذا يكون الالتزام بملبس ابن بطُّوطة؟ لماذا الاسم نفسه؟ ماذا عن ملابسٍ خضراء وشعر أشعَث وصوت «مِسَرْسَع» وشخصية عصبية الطِباع وحذاء أصفر عملاق جداً؟ ماذا لو سُمِيَ «فطُّوطة»؟ خَرجت الفوازير للمرة الأولى عام 1982، وقَسَّم الناس أيامهم في رمضان بين مُشاهدة كأس العالم المُقام في أسبانيا، وُمتابعة عادل إمام وهو يَضْحَك على إسرائيل في «دموع في عيونٍ وَقحة»، وحَل فزُّورة «فطوطة وسمُّورة» وإرسال الحل بريدياً إلى «مبنى التلفزيون، فوازير فطُّوطة، الرسوم المتحرّكة». وجود سمير غانم جعل الفوازير أقل استعراضية وبَهْرَجَة من «نيللي»، ولكنه منحها خفَّة مُطلقة، وصارت أكثر إضحاكاً من أي نُسخ سابقة، ورغم ذلك لم يكن السبب الأهم في النجاح سمير نفسه، ولكن هذا الكائن المُدهش الذي اخترعه فهمي عبدالحميد، مع مصممة الأزياء وداد عطيَّة، وأسموه «فطُّوطة»، حَجمه وملابسه وطَبقة صَوته الغريبة التي يتحدَّث بها، عصبيته الدائمة على الجميع، في مُقابل معرفته وحكمته وقيادته للأمور، خَليط كوميدي جداً، حقق رَبطاً مع الناس منذ ظهوره الأول على الشاشة، يَكفي أن يتحدَّث فَطوطة بانفعالٍ في أي موقف من أجل أن يُسْتَقْبَل بالضحك. إلى جانب ذلك، أخذت الشخصية الفوازير لمنطقةٍ جديدة بالكامل، وربما لم تَكُن مَقصودة بهذا الشكل أثناء الصناعة، وهي «جذب الأطفال»، الصورة الطفولية جداً للشخصية، شكلاً وحَجماً وطَريقة، جعلت الفوازير، في نُقطةٍ منها، تبدو وكأنها مُوجَّهة بشكلٍ مُباشر لصغار السن، كشريحة كبيرة من المُشاهدين صَارت الفوازير تُحادثهم، وتؤثر فيهم، وهو أمر ظَهر لاحقاً في العَرائس والجُمَل المُتداولة وتَقليد بعض الحركات والتفاصيل الخاصة ب«فطُّوطة»، وجعل فوازيره أنجح من أي فوازير أخرى سبقتها. ولموسمين بعدها، ظلَّ العَمَل يُحقق نجاحاً مُدْهشاً، وبالتنقُّل بين «فوازير الشخصيات»، و«فوازير الأفلام»، و«فوازير المعلومات العامّة»، في مواسِم «فطوطة» الثلاثة، كان «عبدالحميد» نفسه يتنقل بين مساحات مختلفة من السخرية وأشكال الكتابة وتقديم الأغاني والاستعراضات واستغلال المواهب المُتاحة، ليحقق نجاحاً تاريخياً فعلاً في تاريخ التلفزيون، ويؤكد، من جديد، أن «الهَزَل» و«الترفية» يُمكن أن يكون فناً راقياً، يعيش طويلاً ويتذكره الناس دوماً.