أعلن الرئيس السودانى عمر البشير بنبرة تهديد أنه إذا انفصل الجنوب فسوف يعلن تطبيق حكم الشريعة الإسلامية فى الشمال، وقد أطلق الرئيس السودانى هذا التهديد فى اليوم الذى تحدثت فيه وثائق ويكيليكس عن قيامه بتحويل مبلغ 7 مليارات دولار من عائد النفط إلى حسابه الخاص، وأشك فى هذا الرقم كثيرا. وحكاية تطبيق الشريعة الإسلامية فى السودان تستحق التوقف، لأنها واحدة من أسباب التأزم بين الشمال والجنوب، ومؤخراً كنت فى سراييفو، والتقيت هناك وزيراً سابقاً للثقافة بالسودان، كان وزيراً زمن البشير، وسمعت منه مآسى حول تطبيق الشريعة زمن النميرى، فقد تعرض النميرى لغواية حسن الترابى بتطبيق الشريعة، وحدثت الكوارث فى الجنوب، لأن نسبة كبيرة من أهله - آنذاك- كانوا وثنيين، أو لا يعتنقون ديانة، وإذا بالأحكام تصدر عليهم، مرة بقطع اليد ومرة بالرجم وهكذا.. أدى ذلك إلى نفور هؤلاء الناس من الإسلام ذاته ومن المسلمين ومن العرب ومن أهل الشمال، وحدثت مشكلة، ليتنا نتذكر أنه فى نهاية الثمانينيات كتب د.سعد الدين إبراهيم مقالاً بجريدة الجمهورية- كان لديه مقال ثابت كل سبت- دعا فيه إلى انفصال الجنوب عن الشمال لأسباب عديدة، كان من بينها تلك الأزمات التى أحدثها النميرى، وليتنا نتذكر كذلك أن الرئيس جعفر النميرى، الذى طبق حكم الشريعة هو نفسه بطل فضيحة نقل «يهود الفلاشا» إلى إسرائيل، الآن يريد الرئيس البشير أن يعيد الكرة، لكن وفق سيناريو آخر، مخيف، ويحيل الشريعة الإسلامية إلى عنصر تخويف وتهديد، وأكاد أقول عنصر ابتزاز سياسى، وبدأت التساؤلات من بعض الإخوة السودانيين، هل المقصود تفتيت الشمال بعد انفصال الجنوب؟ هل الهدف دفع خصوم البشير إلى مغادرة البلاد؟ وماذا عن وضع غير المسلمين فى الشمال؟! لقد جعل البعض من تطبيق الشريعة غطاء لأعمال سياسية غير مشروعة، حين أراد الرئيس السادات أن يلغى من الدستور المادة التى تنص على أن تكون مدة حكم الرئيس لفترتين فقط، مررها بتعديل المادة الثانية من الدستور، مستعيناً فى ذلك بدهاء د. صوفى أبوطالب، ولما أراد النميرى تغطية فشله مع الماركسيين السودانيين وصفقته مع الموساد وعدنان خاشوقجى بتهريب يهود الفلاشا تحدث عن الشريعة وعن الدولة الإسلامية وأصدر كتاباً يحمل اسمه بهذا المعنى، وها نحن نرى تحولات الرئيس البشير، الذى بدلاً من أن يحاسب نفسه ويحاسبه شعبه على كارثة الانفصال التى يتحمل هو شخصياً جانباً كبيراً من المسؤولية عنها يهرب بالحديث عن تطبيق الشريعة، واليوم إذا ما ذكر لنا أحد تطبيق الشريعة لابد أن نفتش فى سجله وتاريخه لنجد أى جريمة يريد مواراتها والتغطية عليها، سواء فى حق شعبه أو حق أمته ووطنه. دعوة البشير أو تهديده تأتى لتكمل الدائرة الجهنمية التى تدخلها المنطقة العربية بأكملها، وهى دائرة الأصولية والتشدد ومعها الطائفتان الدينية والمذهبية، فضلاً عن تسيد وصعود أسوأ العناصر طائفية إلى سدة الحكم والمسؤولية، نور الدين المالكى فى العراق نموذج، والنتيجة النهائية تفتت العديد من دول المنطقة إلى دويلات وإمارات للطوائف، وها هى البشائر المحزنة تطل علينا فى العراق وفى لبنان والسودان، فضلاً عن اليمن، ومن قبل تفتت الصومال دون أن يبكيه أحد، والمستفيد الأكبر فى هذه الحالة دولة إسرائيل.. وليس خافياً على أحد أن إسرائيل لديها مشروع أصولى متشدد تقوم عليه حكومة متطرفة وعنصرية، تعمل على إعلان تهويد الدولة والحصول على اعتراف عربى وعالمى بذلك، ومن ثم طرد غير اليهود منها أو التعامل معهم بعنصرية شديدة، حيث يتم حرمانهم من حقوقهم الإنسانية وطردهم من بيوتهم. المشروع الطائفى المذهبى، يقود المنطقة إلى تدمير حقيقى ويخلق «سايكس بيكو» جديدة، بما يعنى تفتيت الدولة القطرية إلى إمارات للطوائف وللمذاهب، ومن ثم تقديم المنطقة فريسة للمشروع الإسرائيلى من ناحية أو للدولة الخمينية من ناحية ثانية. المسألة ليست قدراً محتوماً ولا قضاء فرضه الحكم علينا، بل هى من غرس أيدينا وما زالت الفرصة متاحة وكبيرة لتجنب هذا المصير، لأن مصرنا هى الحضارة، والآن تحاصرنا الطائفية والأصولية فى كل مكان، وهذا يعنى أن الفيروس قد ينتقل إلينا، ويصير داخلنا، والحل هو أن نعلى صدقاً وحقاً من الدولة المدنية الحديثة، وأن تكون دولة وطنية، وأن نجعلها نموذجا فى المنطقة. يحدثنا التاريخ المعاصر أن مصر قادت المنطقة فى زمن محمد على نحو الدولة الحديثة، وفى القرن العشرين قادتها نحو التحرر من الاستعمار الأوروبى ونحو الليبرالية الثقافية، وإلى حد ما السياسية، واليوم فإن مصر مطالبة بأن تجهض المشروع المذهبى والطائفى، الأصولى المتشدد، فإن لم تفعل غزاها فى عقر دارها.