من أين يمكن للمرء أن يبدأ تحليلاً لرواية كهذه ؟ "طفل ضائع بين آلاف الهدايا " ذلك التعبير الذى إستخدمه نزار قبانى فى قصيدته الشهيرة (صورة خصوصية جداً من أرشيف السيدة مايا) يبدو الوصف الأقرب للمتعة التى يجنيها القارىء الغارق بين دفتى قرابة ال 600 صفحة من جنون الجنس فى أحضان الجليد اللندنى بكل صلفه و جبروته جنباً إلى جنب مع الخرافات الشرقية المتوارثة المغلفّة بهواجس الهرب من الماضى والخوف من الغد . خالد البرى الطبيب صعيدى المولد بريطانى الإقامة نجح فى صياغة شخصياته من حر الجنوب اللافح و ترابه الخشن خشونة الفقر والكبت و الجهل بحيث بدت الشخصيات الإنجليزية غريبة داخل إطار الأحداث التى يدور معظمها فى لندن ...!!! زحام هائل من التفاصيل و الذكريات و الأسماء و الأماكن و التواريخ التى تختلط فى ذهن القارىء أول الأمر ثم ينجلى غموضها شيئاً فشيئاً كلما أمعن إبراهيم - راوية القصة و أحد أبطالها الثلاثة الرئيسيين - فى السرد و إن كنت أُفضِّل أن يروى كل شخص حكايته بنفسه كما كان نجيب محفوظ يفعل بأبطاله أما أن يذكر إبراهيم تفاصيل و أسراراً بالغة الدقة و الحميمية عن صديقيه حسين و ياسر لا يفترض أن يعرفها خاصة و أن علاقته بهما لم تكن صداقة العمر, و يصف لنا الأمور - و لاسيما النسائية منها - من زاويتيهما فهذا ما لم أستسغه تماماً فى الحقيقة . الرواية فى مجملها محاولة جادة و لكن غير مكتملة لتقديم عمل بانورامى يعرض محنة جيل التسعينيات الذى شهد بداية الطوفان و سحقته حرب الخليج بلا رحمة على غرار رائعة أمنية طلعت : طعم الأيام , و يطرح معاناة المصريين فى لندن إبان التفجيرات الشهيرة كما فعل د .علاء الأسوانى بمصريى أمريكا ما بعد 11 سبتمبر فى روايته الشهيرة و الجذابة : شيكاجو . مشكلة خالد البرى هنا أنه تشتت بين الفكرتين فلم يوصل لنا المضمون الذى كانت بدايات الرواية تبشر به كما أفلت منه إيقاع السرد فى مواطن كثيرة إتسمت بالبطء و الترهل . ساعدت على ذلك كثرة الشخصيات بشكل لم أجد له مبرراً حقيقياً مثل كاتيا اللبنانية الراغبة فى العمل كراقصة شرقية و التى ذكرتنى بدنيا (حنان ترك) بطلة فيلم جوسلين صعب المثير للجدل . أضاع الكاتب مساحة كبيرة من الرواية فى سرد مفاتنها الأنثوية و جنونها المثير و لعاب الأبطال الذى سال رغبة فيها فما الذى جنيناه إذن من كل ذلك ؟ لا شىء ...!!! بالمثل بدت لى شخصية مارجريت نظرية أكثر مما يجب, أعنى أننى قطعاً لا أعرف عن النساء الإنجليزيات نفس القدر الذى أتيح لخالد البرى المقيم بلندن منذ أحد عشر عاماً و لكنى أحسست أن مارجريت هى نموذج المرأة الخمسينية الذى صوره الأدب الإنجليزى الكلاسيكى و ليست المرأة الإنجليزية العادية التى يمكن للمرء أن يقابلها تسير فى شوارع لندن أو ضمن أى فوج سياحى بريطانى يأتى إلى مصر . على النقيض جاءت "هيذر" حقيقية حتى النخاع ... كانت عندى مدرسة اسكتلندية عجوز فى مرحلة الروضة , و ما تبقى فى ذاكرتى من سخونة إنفعالاتها و تلقائية تصرفاتها و أسلوبها " البيتوتى " الشبيه بأسلوب جدتى يتوافق تماماً مع الصورة التى رسمها الكاتب لهيذر رغم أنها كما يفترض من الوصف أصغر سناً من معلمتى هذه بكثير. اللغة الخصبة الثرية هى مكمن السحر فى هذه الرواية : براعة خالد البرى فى الوصف و تعبيراته الجريئة و الدسمة و المختلفة إلى حد الإبهار تضفى على الأسلوب نكهة غير نمطية و تمنحك فى حد ذاتها متعة حقيقية كلما أوغلت فى القراءة حتى لو لم يمتعك البناء الدرامى للرواية بنفس القدر . " متى إخترع الإنسان صيغة السؤال؟ وكيف رسم علامة الإستفهام؟ مستديرة في قمتها ومنقوطة في القاع، كعجوز محنية الظهر تخفي مفتاحاً تحت قدميها. علامة الإستفهام امرأة بالتأكيد. إنسيابيتها لا تشبه أجسام الرجال المخلوقة على هيئة الأرقام الإنجليزية الحادة - وان 1، سيفين 7 وفور 4 . النساء يشبهن ما تبقى: تو 2 امرأة تتوب، سيكس 6 وناين 9 امرأة تتقلب على سرير القلق ، فايف 5 امرأة حبلى تنظر إلى المستقبل بترقب، وثري 3 امرأة تستثمر فقط في أنوثة تتآكل، لكن إيت 8 هي المرأة كاملة الأنوثة - انسيابية وملفوفة ومراوغة ومرنة، دون أذى، ولا سوء طوية. " أعيب فقط عليه ذلك التدنى فى الألفاظ الجنسية المستخدمة و التى كان يمكنه على الأٌقل أن يذكرها بالفصحى فيخفف من وطأتها على القارىء . لست ضد الواقعية فى الفن , و أعتبر نفسى من أشد المعجبين بسينما خالد يوسف لكن الفارق بين الواقعية و الإبتذال شعرة رفيعة جداً لا يراها إلا فنان حقيقى ... و من يملك ذلك الثراء التعبيرى و الخيال الجامح الذين أثبت خالد البرى فى هذه الرواية تمتعه بهما هو كذلك بكل تأكيد . رقصة شرقية برغم ثقوبها النازفة من أفضل الأعمال الأدبية التى قرأتها خلال السنوات الأخيرة و تبشر بإنطلاقة حقيقية لكاتب يدهشنى أننى لم أسمع به من قبل رغم أن له رواية سابقة بعنوان : نيجاتيف. و سواء فاز بجائزة البوكر العربية لعام 2011 - التى وصل لقائمتها القصيرة بالفعل - أم لم يفز فالقفزة التى حققها بهذه الرواية المميزة حقاً كفيلة بتدشين موهبته بالشكل الذى يليق بها ... أو هذا ما أتمناه لأنه بالفعل يستحق . "التدوينة هى هى تلاقوها على مدونتى الرئيسية بره الشبابيك " http://reeeshkalam.blogspot.com/2010/12/blog-post_19.html