مات إدريس على ...!!! مات المشاغب الأسمر الجميل الذى حمل على كاهله عبء النوبة و أهلها طيلة سبعين عاماً قضاها يبحث عن كلمة السر التى تفتح له أبواب الخروج من هذه الحياة ...!!! خمس محاولات للإنتحار عبر سنوات طوال إنتهت بوفاته متأثراً بأزمة قلبية حادة, كأن الحياة التى كان يلفظها تصر على التشبث به حتى تتركه هى... مثلها مثل المرأة اللعوب التى لا تقبل أن يدير رجل ظهره لها حتى لو كانت لا تريده. مات إدريس على تاركاً خلفه ثروة من المعانى و الرموز و التجارب الغزيرة المدهشة: فمن بداية إستقراره فى القاهرة بحثاً عن أى عمل بسيط يرتزق منه, إلى حربى اليمن و 67 اللتين خاضهما مجنداً, ثم حادث إنتحار إبنه الذى حطم قلبه و أدماه. من كل هذه الخيوط السوداء و البيضاء كان إدريس على يغزل أعماله بحرفية عالية و حس مرهف... تلتقط حواسه التفاصيل الصغيرة للأشخاص و الأماكن فيعود و ينثرها على الورق مضيفاً إليها الكثير من الخيال والشجن و الحميمية. بدأ إنجذابى لأدبه منذ أول عمل قرأته له و الذى كان بالمصادفة أيضاً باكورة إنتاجه الأدبى... المبعدون. قرأتها بعد صدورها بأكثر من عشر سنوات و كنت وقتها صغيرة فى الصف الثالث الإعدادى لا أزال, و مع ذلك مازلت إلى اليوم أذكر جيداً الفتاة الجميلة التى حاول البعض مساومتها على شرفها مقابل السماح لباقى قافلة المبعدين المصريين من ليبيا بعبور الحدود إلى بلدهم, و كيف راح الجميع يتصايحون و يطلبون منها أن تنصاع (و تخلصهم) بينما تستجير هى بهم و بنخوتهم دون أدنى إستجابة إلا من ذلك الشاب ذى الماضى الثورى الذى يلقى حتفه دفاعاً عما يؤمن به من قيم. أعجبتنى القصة كثيراً ولطالما وددت أن أقرأها مرة أخرى دون جدوى لأنى ببساطة لم أعثر عليها بعد ذلك قط... لكنى كنت قد عرفت بداية الطريق إلى عالم هذا الساحر الأفريقى العبقرى الذى أعتبره فى رأيى الشخصى - برغم النزعة التشاؤمية الغالبة على كتاباته و الإنتقادات الدائمة التى يوجهها له النوبيون متهمين إياه بتشويه صورتهم - واحداً من أبرز الأدباء المصريين الذين ظهروا خلال النصف الثانى من القرن العشرين, خاصة إذا ما أخذنا فى الإعتبار أن الأثر الكبير الذى أحدثه هو نتاج فترة قصيرة نسبياً بسبب إنشغاله الدائم بلقمة العيش التى عطّلت مسيرته كأديب. على فكرة قرأت قريباً أن الجزء الأول من أعماله الكاملة قد صدر بالفعل. من المفترض أن يكون مطروحاً فى الأسواق الآن. "التدوينة هى هى على مدونتى الرئيسية : بره الشبابيك " http://reeeshkalam.blogspot.com/2010/12/blog-post.html