ترقب وإثارة تملكاني في ذلك اليوم المهم الذي قررت فيه الترشح في الإنتخابات المؤهلة لأعلى منصب سياسي بين أقراني.. رئيس الفصل..! كان صديقي العزيز (شادي) هو منافسي في الإنتخابات، وبالرغم من كون (شادي) يمتلك مميزات عدة ترجح كفته وتعزّز حظوظه إلا أنني كنت واثقاً من الفوز في هذه الانتخابات.. وبسهولة. لم يكن هذا غروراً مني ولا ثقة زائدة في قدراتي الخاصة ومؤهلاتي الشخصية، بل السبب كان يرجع لأن منافسي كان لديه نقطة ضعف رهيبة من المؤكد أنها ستؤثر على سير الإنتخابات.. ببساطة كان (شادي).. مسيحياً..!! *** كما هو الحال في باقي المدارس فقد كان النظام المتبع في توزيع الطلبة على الفصول حسب الحروف الهجائية إلا أن في تلك الفترة في بداية التسعينيات كانت المدارس المصرية تقوم باستثناء الطلبة المسيحيين من هذا النظام وتجمّعهم في فصل واحد عادة يكون الفصل الثاني في كل سنة دراسية.. بمعنى أنه يكون 1-2 أو 2-2 أو 3-2. (تم إلغاء هذا النظام لاحقاً) وبالرغم من أن ترتيب أسمي أتى بي في فصل "المسيحيين" (وهو الأسم الذي كان يطلقه الزملاء في الفصول الأخرى على فصل 1-2) فقد كانت ثقتي بالفوز في الإنتخابات مرجعها أن زملائي "المسيحيين" والمجمّعين من كافة الفصول الأخرى لم يكن يتجاوز عددهم 14 طالباً مقابل حوالي 26 طالباً مسلماً. نعم، حسبتها بشكل طائفي بحت..! مرشح مسلم يتقدم لإنتخابات رئاسة الفصل الذي يضم أغلبية مسلمة، فكيف ستكون النتيجة، خصوصاً وأن منافسي مسيحي وسط أقلية مسيحية؟ ها نحن جالسون على مقاعدنا منتظرين الإنتهاء من توزيع إستمارات التصويت علينا.. وتبدأ عملية الإقتراع. (لا تسأل عن التصويت خلف ستار حاجب، فهي ليست إنتخابات برلمانية..!) ولأن عملية التصويت كانت شفافة (أكثر من اللازم)، فقد دفعني الفضول للمرور على زملائي أتابع عملية تصويتهم بنفسي..! ها أنا ألمح (بيتر) صديقي يدلي بصوته ويكتب أسمي في خانة الرئاسة، أزدادت ثقتي بنفسي فكتلة الأصوات المسيحية لم تتحد خلف مرشحها، وأحدهم يختار مرشحاً مسلماً..! لكن للأسف يتعكر صفو المشهد، فما بدرَ من زميلنا المشترك (حنا) كان صادماً لي.. "إنت ح تنتخبه يا له؟ ده مسلم..!" هكذا قالها (حنا) في حِدة موجهاً حديثه ل(بيتر) الذي أستشعر حرجاً بالغاً عندما أنتبه لوجودي. انسحبتُ في سرعة، متظاهراً أني لم أسمع شيئاً وأنشغلت بأمور أخرى حتى تم تجميع أستمارات التصويت لتبدأ عملية فرز الأصوات وإعلان النتيجة.. .. فوز (شادي) في إنتخابات رئاسة الفصل..! مفاجأة؟ .. الحقيقة هي كانت صدمة..! .. كيف يفوز (شادي) "المسيحي" في إنتخابات الفصل ذي الأغلبية "المسلمة"؟ لا يحتاج الأمر لكثير من الذكاء كي أستنتج أن الأغلبية المسلمة لم تتحد خلف "مرشحها" – أنا – وأعطت قسماً ليس بالقليل من أصواتها ل(شادي). حساباتي كانت خطأ؟ لم أتوقع النتيجة؟ .. حسناً، أنتهت الإنتخابات وحدث ما حدث ومبارك للفائز أياً كانت ديانته. الإنسان لا يتعلم مجاناً، ولابد أن يخوض تجربة تلو الأخرى كي تتطور طريقة تفكيره وفهمه للحياة. .. كلمات جميلة، أليس كذلك؟ لكن هل تصلح لختام القصة؟ .. الحقيقة أن الكلمات السابقة لا تصلح أن تكون نهاية للقصة ليس لأن الكلمات ليست جميلة بما يكفي. لكن لأن القصة نفسها لم تنته بعد..! .. فما حدث في اليوم التالي كان مفاجأة لم تكن في الحسبان.. *** "خلاص يا (شادي)؟" هكذا ألقى الأستاذ (عبد الحميد) مدرس مادة ( ... )، سؤاله على (شادي) الذي كان يقف بجواري منكس الرأس قبل أن يقول دون أن يرفع رأسه: - "أيوه يا أستاذ" ابتسم الأستاذ (عبد الحميد) في ظفر قبل أن يقول: - "كويس، ح نروح كلنا دلوقتي لأبلة (أمينة) عشان هي اللي عندها الدفتر" اتجهنا جميعاً يتقدمنا الأستاذ (عبد الحميد) يسير منتفخ الأوداج وكأنه قائد قادم لتوه منتصراً من إحدى الغزوات، وبالفعل أثار مشهدنا ونحن سائرين في الردهة المؤدية إلى حجرة الأبلة (أمينة)، انتباه أحد المدرسين، فصاح قائلاً: - "هو في إيه يا أستاذ (عبد الحميد)؟" ردّ الأستاذ (عبد الحميد) بصوت عالٍ دون أن يبطأ من سيره: - "أغيب يوم عن المدرسة، ألاقي حالها اتشقلب، هُمّا عايزينهم يركبونا ولا إيه؟!" *** دخلنا إلى الأبلة (أمينة) ولم نمكث داخل غرفتها إلا لعدة دقائق ثم خرجنا عائدين إلى الفصل. .. "يا ولاد..!" هكذا هتف الأستاذ (عبد الحميد)، فساد صمت في الفصل انتظاراً لما سيقوله الأستاذ (عبد الحميد) الذي دار ببصره سريعاً في أنحاء الفصل قبل أن يقول: - "إمبارح كانت انتخابات الفصل، واللي بقى رئيس الفصل هو ميييييين؟" رد الطلبة على الفور: - "(شادي)" هتف الأستاذ (عبد الحميد) قائلاً: - "تمام، و(شادي) اتنازل النهاردة عن رئاسة الفصل"..! .. هنا رفع (شادي) رأسه الذي كان منكساً طوال الوقت و نظر لي نظرة لم تسمح لي حينها سنوات عمري القليلة أن أعي معناها جيداً يومها أو حتى طيلة السنة التي كنت فيها رئيساً..!