لم ألتق جمال مبارك فى حياتى، ولا أعرفه على الإطلاق، لأن الشخص الذى يتحدث عنه الإعلام كثيرا، شخص آخر غير جمال الواقعى، لكننى اضطررت لاستخدام اسمه فى مقال اخترت له عنوان «سر العلاقة بين جمال مبارك ونانسى عجرم»، وطبعاً أنا لا عندى أسرار، ولا أعرف مين جمال مبارك، ولا مين نانسى عجرم، والغريب أننى أوضحت فى المقال نفسه أن العلاقة التى أقصدها هى أن الصحف تعاملت مع جمال كما تتعامل مع نانسى، وأبوتريكة، وسفاح المعادى، ومشاهير آخرين، أى باعتبارهم جميعا «نقاط للبيع»، و«نجوم مانشيت»، لكن عقلية القارئ المتلهف على فضيحة للتسلية، والمتشوق لمزيد من النميمة عن حياة المشاهير، تغاضى عن الإجابة المكتوبة أمامه، وجلس ينتظر إجابة أخرى ربما لأنه يفضلها أكثر من الإجابات الواقعية. الموجع حقاً أن هذه الطريقة فى التفكير لم تعد مقصورة على القارئ محدود الثقافة، بل إن معظم عناصر النخبة من مثقفين وباحثين وإعلاميين وسياسيين صاروا يفكرون بالأمنيات والانفعالات وليس بالمعطيات الواقعية الملموسة، وهذه الحالة هى التى تؤدى بنا إلى تصديق شائعات قد نعرف بالعقل أنها صعبة الحدوث أو غير منطقية، إننا نصدقها لأننا نتمناها، وليس لأنها حدثت، ومن هنا انتشرت فكرة الخصام بين العنوان والتفاصيل التى نحكيها أو نكتبها، وأذكر منذ سنوات أن صحفياً طموحاً قدم لصحيفته موضوعاً بعنوان مثير جدا، وعندما قرأه رئيس القسم لم يجد أى علاقة بين المتن والعنوان، فسأل الزميل الذى يترأس حاليا أحد الأقسام فى صحيفة كبرى: فين الكلام المذكور فى العنوان؟، فقال ببساطة: مش موجود تحت، رد رئيس القسم بغيظ: طيب كتبته ليه؟ قال المحرر الجهبذ بثقة: عشان أشد الزبون! بعد سنوات من التندر على هذه القصة، سألنى زميلنا المحرر بنبرة جادة: هل مازلت تعتبرنى صحفياً جهولاً كما قلت يومها؟ لم أجد رداً حينها، لكننى الآن أبشره بأن الأيام أنصفته، وأثبتت أنه «شيخ طريقة»، ومكتشف نظرية جديدة انتشرت فى مصر كلها من فوق لتحت، فالكل «يفتكس» لكى يشد الزبون، تصريحات المسؤولين، والإعلانات، والمقالات المدبجة، وادعاء العقل، والتشدق بالشعارات البراقة، ولافتات الأخلاق الحميدة على واجهات النفوس الخربة، و...، كلها وسائل لشد الزبون، وتبشيره بما لن يحصل عليه أبداً، وكأننا نعيد حيلة المرأة الفقيرة التى اكتشف الفاروق عمر بن الخطاب أنها قدمت لأولادها الشاكين من الجوع عنوانا جذابا: «سأعد لكم عشاء ساخنا»، فيما كانت تغلى الحصى، حتى يدركهم النوم، لكن الفاروق اكتشف عدم مطابقة العنوان للمتن، وكان عليه أن يفكر فى صياغة الموضوع، إما أن ينهر المرأة لأنها تخدع أولادها بعنوان لا علاقة له بما بعده، وإما أن ينتصر للعنوان وبالتالى لابد من إعداد التفاصيل التى تجعله ملائماً وصحيحاً، لابد من الدقيق والسمن واللحم بدلا من الحصى، لابد أن يتطابق الشعار مع التفاصيل، حتى لا يبيعوا لنا الديكتاتورية تحت عنوان «الديمقراطية»، والتسلط تحت عنوان «الفكر الجديد»، والصراع على السلطة تحت عنوان «التغيير»، والجباية تحت عنوان «الضرائب»، والخنوع تحت عنوان «السلام»، والتوريث تحت عنوان «انتخابات رئاسية مباشرة»، آن لنا أن نفهم الخدعة ونتوقف عن تعاطى «العناوين المخدرة»، فلم تعد تنطلى علينا أساليب «شد الزبون»، و«غلى الحصى». [email protected]