لعلها اللحظة المناسبة التى ينبغى أن نناقش فيها بكل شفافية ومكاشفة أحوال وهموم مؤسسة عريقة نعتز بها، وهى «الأزهر الشريف»، بعد رحيل شيخها الدكتور محمد سيد طنطاوى، تغمده الله بواسع رحمته، وهو ما يقتضى الاعتراف فى البداية بتراجع دور وتأثير الأزهر على المسلمين داخل مصر وخارجها، بينما تتمدد تيارات أخرى متطرفة كالسلفية الجهادية والتكفيرية وغيرهما، ممن يدفعون الأمة لمواجهات خشنة مع الغرب، وحتى داخل الوطن مع غير المسلمين، وقد باتت المسألة الدينية حاضرة فى جميع أنشطة حياتنا. فى ظل مناخ كهذا اختلطت فيه الأمور بعد ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات، لعلنا لم نكن أحوج لدور «المرجعية السنّية» الحاسمة التى تتصدى للتيارات الراديكالية كما هى حاجتنا الآن، لكن تحقيق ذلك يرتبط بمساحة الاستقلالية التى تتمتع بها تلك المؤسسة «الأزهر»، لترسخ مصداقيتها لدى الشارع الإسلامى، على غرار ما يحدث فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التى لا تملك الدولة تسمية رأسها «البطريرك»، فهناك تقاليد وطقوس متجذرة فى تراث الكنيسة، وإن كانت الدولة تمتلك قانونياً سلطة الاعتراف بالبابا. لماذا لا يكون اختيار شيخ الأزهر بالانتخاب من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، وهو الهيئة العليا المعنية بالبحوث الفقهية، ويضم نحو خمسين عضواً من كبار علماء الإسلام يمثلون المذاهب كافة، ومن بينهم عدد من غير المصريين، وهو ما يجعل للمجمع سمة دولية تؤهله ليكون بمثابة «المرجعية الفقهية» فيما يتعلق بالقضايا الإسلامية وما بات يكتنفها من سجالات حادة. وعلى ذمة د. أحمد كمال أبوالمجد، الذى أقيل مؤخراً من منصبه كنائب لرئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان، فإن «الأزهر أصبح موضع استنكار وهجوم من كثير من المؤسسات الحكومية والعالمية»، مشيرا إلى ما وصفه «عدم اجتهاد علماء الأزهر وعدم درايتهم بالمستجدات العالمية والسياسية». قيمة هذه الشهادة تكمن فى شخص قائلها، ليس فقط لأنه عضو بمجمع البحوث الإسلامية، بل لأنه مفكر إسلامى، وسياسى محنك، وباحث رصين له تراثه الطويل فى مضمار الدراسات الإسلامية، فضلاً عن خبراته القانونية كمحام دولى، والسياسية كوزير أسبق. لا مفر إذن من نكء الجراح، وفتح أبواب المناقشة الجادة لسبل استعادة الأزهر مكانته التاريخية فى قلوب ملايين المسلمين من شرق آسيا، حتى أدغال أفريقيا، ولماذا اهتز تأثيره لصالح فريق من اثنين: فإما انتهازيون يسعون لاختطافه واستغلال اسمه فى مشروعات تخصهم، أو فصيل سلفى متجهم يتعمد فرض نسخة غير مصرية النشأة ولا الظروف على الواقع المصرى، الذى ظل طيلة قرون يتسم بالتسامح وقبول الآخر المختلف، فاتسع صدر المحروسة للشامى والمغربى واليونانى واليهودى والأفريقى، قبل أن تحط عليها «سحابة سوداء» دفعت قطاعات عريضة من المجتمع لحافة الهوس الدينى بالطقوس على حساب عملية «بناء الضمير»، ناهيك عن ألاعيب المتاجرة بالسماء التى تبدأ من بيع «الموبايلات»، و«الرنات الإسلامية»، مروراً بالفتاوى مدفوعة الثمن لشركات الاتصالات، وصولاً لما يسمى «عمرة الإعلاميين»، التى صارت أحدث صرعة فى لعبة تسويق برامج العمرة حيث تستضيف مقدمى البرامج الدينية المشهورين، ليكونوا عنصر جذب لعلية القوم لأداء العمرة بصحبتهم، وبالطبع فالمستفيد الأول هو شركات السياحة التى تنظم تلك الرحلات، مستغلة المشاعر الدينية الراسخة لدى المصريين على تنوع مشاربهم. فى عهد السلطان العثمانى سليمان القانونى، قبل نحو أربعة قرون، أعلن عن وظيفة «إمام مسجد» خالية، فكانت الشروط الواجب توافرها فى المرشَّح هى: أن يجيد اللغة العربية، والتركية، والفارسية، واللاتينية. أن يكون دارسًا وفاهمًا للقرآن الكريم والإنجيل والتوراة. أن يكون عالمًا فى الرياضيات والطبيعة. أن يجيد ركوب الخيل والمبارزة بالسيف. أن يكون حسن المظهر. أن يكون جميل الصوت. أن يكون قدوةً حسنةً، وأسوةً صالحةً. هل هناك وجه للمقارنة بين أوضاع الدعاة وخطباء المساجد الآن، بهذه الشروط التى وضعها السلطان العثمانى لإمامة المسلمين، مع احترامنا للتحفظات على بعضها كالمبارزة بالسيف وركوب الخيل، نظرا لارتباط تلك المهارات بزمنها، وهو ما يساوى الآن قيادة السيارات، والتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت؟ هذه المقارنة على بساطتها تختزل كثيراً من المعانى، وتكشف حجم التردى الذى لم يضرب مؤسسة الأزهر فحسب، بل امتد للأسف لجميع مؤسسات المجتمع، ووضعنا فى مرتبة متدنية على خارطة العالم المتحضر. والله المستعان. [email protected]