يتقلب فى ضجر محاذرا أن يُوقظ زوجته. الناس صنفان: صنف ينام بسهولة ويستيقظ خفيف الروح مقبلا على الحياة. وصنف (ينتمى إليه للأسف الشديد) يُعاديه الفراش ويعتبر قدوم الليل محنة متكررة. فى البدء كانت حيلة عد الخراف تجلب له النوم، والآن صار يسترسل فى أحلام اليقظة. يفكر فى الكواكب البعيدة. يغمض عينيه ويحلم. فى الكون ما لا يمكن إحصاؤه من النجوم، وبالتأكيد يدور حول بعضها كواكب سعيدة. لا يكابد أهلها الأرق ولا ضيق المعيشة. هم سعداء، لا ريب. ولكنه رضا القناعة وليس الغفلة. الأولاد نائمون فى غرفتهم. الكون نفسه نائم ولا أحد مستيقظ سواه. طلباتهم لا تنتهى. مشاكل البنات هينة ويمكن سترهن مع بعض التضحيات ولكن ماذا عن الولد؟. يحلق ذقنه ما لا يقل عن ثلاث مرات يوميا لكى تنمو بسرعة، وأقران السوء يجرونه بعيدا. وحينما يزجره يحملق فى الكتاب قليلا ثم يرفع رأسه فى تحد. يتجاهل النظرة مرغما ويستعجل انقضاء اليوم ليتفرغ للكواكب البعيدة. لقد استعصى النوم فعلا هذه الليلة. النوم مثل الحب يحدث أو لا يحدث. وكلما مر الوقت شعر بمزيد من الهلع. يذهب إلى المطبخ ليأكل فربما يجلب له الامتلاء النوم. مد يده ليتناول القطعة الأخيرة من اللحم لكنه تذكر ذراع ابنه النحيفة وقدر فى نفسه أنه يحتاجها أكثر. تناول الخبز بالجبن فى رضا. وشعر بالدفء يسرى فى أوصاله وبثقل محبب للطعام فى أحشائه. هم بالعودة للسرير لكن خُيل إليه أن يسمع صوتا فى الصالة. مضى يستطلع الأمر فوجدهم. أربعة رجال لا يعرفهم كانوا يجلسون على مقاعد الصالة. وجه كبيرهم بشوش أسمر يشبه وجه أبيه. وجلبابه الأبيض دون تجعيدة واحدة، ويمد قدميه الحافيتين فى استرخاء. غريب أنهم هنا فى صالة داره دون أن يعرف بوجودهم. والأغرب أنه لم يشعر بانزعاج أو حتى بدهشة. بل بسكينة أنعشت روحه، فجلس بينهم وراح يتبادل الحديث الودّى. نظر إليه العجوز بعينين تشعان ودا، وسأله عن أحواله. تذكر ضيق العيش ونظرة التحدى. ولكنه قال فى رضا: الحمد لله. واسترسل الحديث عذبا فلم يدر كم مر من الوقت فى هذه الصحبة الطيبة. وأخيرا دعاه العجوز للنوم فاحتج، لأنه كان يريد البقاء فعلا. قال الرجل بوضوح: لديك عمل فى الصباح. والبيت بيتنا. هل تشك فى هذا؟ وأومأ برأسه موافقا أن البيت بيتهم وأنهم ليسوا ضيوفا عليه. حياهم فى ود ثم ذهب للسرير سعيدا، وسرعان ما غرق فى نوم عميق دون أن يفكر- هذه الليلة- فى الكواكب البعيدة. الصباح. حلاقة الذقن المتعجلة. الوضوء والصلاة. ارتداء ثيابه. ثم الشاى والإفطار، وفى الطريق إلى باب المنزل يمر بالصالة. ثمة كراس خالية لكنها تحمل باقية من رائحة الود. توقف مذهولا وقد تذكر ما حدث بالبارحة: ترى هل كان ما شاهده بالأمس حلما أم حقيقة؟! [email protected]