ربما يحسد المرء على سلطانه أو ماله أو عياله أو حسبه أو نسبه أو مكانته الاجتماعية، ربما يحسد على حظه أو علمه أو سلامة رأيه أو قوة بنيانه، ربما يحسد على طغيان حضوره أو خفة ظله أو سرعة قفشاته أو جمال شكله، أما أن يحسد على نوع إعاقته فهذا هو العجب العجاب وآخر صيحة من صيحات موضة النظام الحالى، وإذا أردت عزيزى القارئ أن تضحك مع شر البلية فاقرأ معى هذه الرسالة التى وصلتنى من شاب كفيف يعرض خلالها أسوأ نموذج لتطبيق القانون، وأغرب حالات التمييز الساذج بين أنواع الإعاقة المختلفة، يقول صاحب الرسالة: كلما ادخرت مبلغًا من المال لشراء سيارة، ارتفعت أسعار السيارات بسرعة جنونية، فأحاول مرة أخرى، وأزيد على المبلغ المدخر مبالغ أخرى، فتعاود أسعار السيارات ارتفاعها، ثم أحاول ثالثة ورابعة حتى وصلت إلى الحد الذى جعل إيمانى بالمثل القائل: الإيد قصيرة والعين بصيرة، إيمان غير قابل للزعزعة، وكيفت نفسى على رائحة الزحام والزنقة، والجرى والقفز خلف كل وسائل النقل العام والخاص، وظللت على هذه الحال مدة طويلة، حتى بشرنى أحد أصدقائى - سامحه الله - بأن الدولة قد أعطت أمثالى من المعاقين حق الحصول على سيارة تتمتع بقدر كبير من الإعفاء الجمركى يصل إلى 20 ألف جنيه، تشككت فى بادئ الأمر، ليقينى بأن الحداية ما بترميش كتاكيت، لكن مع تأكيد صاحبى على صحة الرواية، وسؤالى لبعض العارفين بمثل هذه الأمور، تيقنت من وجود القانون، وتيقنت كذلك بأن الحظ قد صالحنى وأنه قد آن الأوان لإنقاذ ما تبقى لى من حطام التحويش وأشترى سيارة على ما قسم، لم أكذب خبرًا، وحزمت حقيبة أوراقى، واتخذت أولى الخطوات الواجبة فى طريق الإعفاء الجمركى، وكانت ذهابى للمجالس الطبية المتخصصة بشارع قصر العينى، للحصول على تقرير طبى يحدد طبيعة الإعاقة ونسبتها، وبعد طول صبر على عذاب الانتظار، وصلت للموظف المسؤول والذى لم يعرنى أى اهتمام، وأمام إلحاحى فى سؤالى عن التقرير الطبى، أجابنى بقرف شديد، وبلهجة الناقم، إنت كفيف، تصورت أنه يسألنى، فقلت له نعم، لكنه كررها بصوت عال، وكأنه هو الذى سيدفع لى ثمن الإعفاء، ففهمت أنه لا حق لى فى الإعفاء، لم أفهم سببًا للرفض، وكل ما فهمته أن هذا الرجل مضروب من زوجته، ولا يريد سوى عكننتى، على الفور قررت الانتقام لنفسى ولوقتى الذى ضاع، وأخذت مرافقى وانطلقت به إلى أكبر رأس فى المكان، - المدير العام - فمن المؤكد أن عنده الخصومات للموظف المسىء إلى الناس، ومن المؤكد أن عنده الإجابة على طلبى، وما إن بلغت مكتب سيادته، حتى وجدت هذا المكتب أشبه بصالة صغيرة تمارس أمامها لعبة المصارعة الحرة، واشتباكات بين الناس على مستوى جميع الأطوال والأحجام والأوزان والمقاسات، أيد تتطاير وأرجل عمياء تضرب فى كل الأماكن والاتجاهات، الكل يصارع من أجل الظفر برؤية سحنة سيادته، ورغم هذه الظروف الصعبة، ورغم كثافة الجثث المتراصة، دفعنى مرافقى دفعًا إلى داخل مكتب المدير، الذى قابلنى هو الآخر بوجه عابس يائس غاضب قال لى بصوت أجش، اختصر عاوز إيه؟ استجمعت نفسى بصعوبة بعد فترة من التلعثم، وسألته عن مدى حقى فى الحصول على سيارة تتمتع بقدر من الإعفاء؟ وقبل أن أكمل له حكاية الموظف وما أخبرنى به، ومدى سوء معاملته لى، قاطعنى سيادته قائلاً: إن هذه السيارة للمعاقين حركيًا، وليست للمكفوفين، لأنها مجهزة طبيًا، ويقودها مالكها بنفسه، وعندما لمح إمارات الغضب بادية على وجهى استطرد متسائلاً: هل ستقودها بنفسك؟ لم أعره اهتمامًا وأنا أدير له ظهرى وأقول: ولم لا؟ فلعلى أنقذ الناس ممن عجز المصرون عن إنقاذنا منهم. انتهت رسالة الرجل لكن لم تنته مأساته ومأساة غيره من رفقاء المحنة، ولا تزال العقول المتحجرة تتوهم أن القانون 186 لعام 1986 أعفى السيارات المجهزة ولم يعف المعاقين وسمح لمن فقد ساقه بامتلاك سيارة، وحرم من فقد عينه من هذه الميزة لمجرد أن العلم قد توصل لأجهزة تعويضية قد تعين المعاقين حركيًا على قيادة سياراتهم بأنفسهم، ولم يخترع عيونًا صناعية تعين الكفيف على قيادة سيارته بنفسه، منطق غريب وعجز سخيف عن فهم روح القانون، وقصور فى إدراك الأبعاد الحقيقية للمآسى، ولا أعرف بالضبط، من يحاسب من؟ وإلى متى تظل القضايا والمشكلات بعيدة كل البعد عن الآذان الصاغية؟ ولا أعرف كذلك، ما هو الفرق بين معاق حركيًا أو بصريًا أو سمعيًا أو ذهنيًا؟ فهمهم واحد ومعاناتهم واحدة، وجميعهم فى حاجة لجميع أشكال الدعم والمساندة، لتعويض النقص واستثمار الطاقات، وتفعيل المشاركة المجتمعية، ومن المؤكد أن المشرع عندما استثنى المعاق وأعطاه حق الحصول على سيارة معفاة من الجمارك لم يكن يقصد التمييز بين نوع إعاقة عادة ونوع آخر لوكس، لم يكن يقصد إقناع غير المعاقين حركيًا باستبدال إعاقتهم التى لا جدوى منها، بإعاقة أخرى سوف تجلب لهم السعد والوعد، وتجعلهم من أرباب السيارات الفارهة. وقبل أن أنهى هذا المقال أطالب وزير المالية الذى سبق أن وصفته بأنه آخر الرجال المحترمين، بإعادة النظر فى تفسير هذا القانون، وتغليب العقل فى التعامل مع هذا النوع من القضايا الشائكة، وأذكر سيادته أيضًا أننى قد كتبت عن نفس هذا الموضوع منذ ثلاث سنوات، وها أنا ذا أكتب عنه اليوم، وأخشى أن أعاود الكتابة عنه بعد ثلاث سنوات أخرى قادمة، ونتأكد أننا نكتب لمن لا يقرأ، ونضع مجرد أحبار على أوراق، ولم يعد يبقى لنا من مسؤولينا سوى أذن من طين وأخرى من عجين. [email protected]