افرضْ أن لصّين قد ارتكبا جريمة معا. وبعدما ألقى القبض عليهما، تم استجوابهما، كلّ على حدة. المحققُ يغرى كلا منهما بأن يشى بالآخر ليتحوّلَ إلى شاهد، فتُخفّف عقوبتُه وتتضاعفُ لدى الآخر. «إذا اعترفتَ، ولم يعترف هو، تحسّن وضعُك فى القضية بوصفك شاهدا ومعترِفًا، أما إذا صمتَّ واعترفَ هو ستضيعُ، ويكسب هو! لذا فالخيار الأفضل لكَ هو أن تشى بزميلك»، هكذا سيقول المحقق لكل منهما على انفراد. الأفضلُ للبوليس، ولتحقيق العدالة، أن يعترف المجرمان، ولكن الأفضل للمجرميْن أن ينكرا الجُرمَ كلاهما، والأفضل لكل منهما على حدة، أن يعترفَ هو، وينكر الآخر، والكارثة بالنسبة لأحدهما، أن ينكرَ هو، ويعترف الآخر! المعترِف يُسجن عاما، والمنكِر يُسجن أربعًا. وإذا اعترف الاثنان ينال كلٌّ منهما سنواتٍ ثلاثًا، بينما إذا أنكرا معًا ينالان عامين لكلٍّ منهما. ولذا فالأفضل للسجينين أن يلتقيا ويتشاورا ويتفقا على الإنكار معا. لكنْ مَن يدريك أن أحدهما لن يخون فينكرُ، بعدما يكون الآخر قد اعترف؟ تلك تُسمى: «ورطة السجين» Prisoner Dilemma. هذه الأحجية الطريفة هى ملخّص واحدة من أهم وأعقد النظريات الرياضية التى وضعها عالمُ الفيزياء الأمريكى جون ناش، الحائز نوبل الاقتصاد عام 1994. والذى نُسج حول حياته واحدٌ من أهم الأفلام الأمريكية هو «عقلٌ جميل» Beautiful Mind A الذى حصد أربع جوائز أوسكار. «نظرية اللعبة»، TheoryGame، كانت رسالة الدكتوراه التى قدمها وعمره اثنان وعشرون عاما، وعلّها الأصغرُ بين رسائل الدكتوراه فى الوجود؛ إذ بلغ عدد صفحاتها 27 فقط! اتكأ ناش فى بناء نظريته على علميْ التفاضل والتكامل ونظرية الاحتمالات. وحين تم الانتباه لأهميتها، بعد عقود من تقديمها، اِتُخذَتْ قاعدةً أساسية لاستراتيجيات التجارة والتسويق والمنافسة بين المؤسسات. والفكرة ببساطة أن اختيارات مؤسسة ما، تتأثر رأسا باختيارات المؤسسة المنافسة. تماما مثل مثال السجناء السابق. ولذا فالأفضلُ دائما أن تتشاور المؤسساتُ فيما بينها، وتختار ما يتفق وصالحها معا، وصالح السوق والمستهلك، إن أمكن. ورغم عبقريته التى شهد بها علماءُ كبارٌ، أو ربما بسبب تلك العبقرية، فقد ضربَ فُصامُ البارانويا عقلَه الألِقَ فى بداية شبابه وظلَّ يعانى منه حتى الآن. يسمع أصواتا، ويرى أخطارًا لا وجود لها إلا فى عقله. فأمعن فى الهروب إلى الأرقام، التى أحبها أكثر من البشر، قائلا: «الأرقام لا تخونُ ولا تكذب ويمكن توقعها وحسابها بالمعادلات، بينما البشر مستحيلٌ أن تصلَ لصيغةٍ محددة للتعامل معهم على نحو لا يخطئ». عرفته المصحّاتُ العقلية والنفسية التى قضى سنواتٍ طوالا من عمره بينها، لكن زوجته الجميلة «إليشا» كانت دائما هناك لمؤازرته وامتصاص أزماته. ورغم كل إنجازات هذا العقل الجميل، فإن الأجملَ بين كل ما قدّم هو الجملةُ الأخيرة من خطبته على منصّة الأكاديمية الملكية السويدية أثناء تسلمه جائزة نوبل: «بعد كل هذا العمر مع الأرقام عثرتُ على أهمِّ وأخطر اكتشافٍ فى الوجود. إنه يكمن فى المعادلة الأسطورية التى اسمُها «الحُب». حيث يتوارى المنطقُ وترتبكُ الأرقام، وحيث لا يمكن العثورُ على أى معادلات حسابية. أنا هنا الآن بسببكِ أنتِ يا إليشا. أنت السببُ فيما أحصل عليه الآن. أنتِ جميعُ أسبابى».