يقضى الاتفاق الذى أبرمته الولاياتالمتحدة (فى السادس عشر من يناير الحالى قبل أربعة أيام من انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش)، مع إسرائيل بالتعاون بينهما ودول الاتحاد الأوروبى وحلف «الناتو» والحلفاء الإقليميين لمنع تهريب السلاح إلى حركة «حماس» ومنظمات الإرهاب (المقاومة) الأخرى فى غزة من البر والبحر. وحدد الاتفاق ميدان المعركة فى المنطقة الممتدة من مضيق جبل طارق غرب المتوسط وحتى مضيق هرمز فى الخليج العربى مروراً بسواحل غزةوسيناء والبحر الأحمر وخليج عدن وشرق أفريقيا. كما حدد آلة الحرب بالإمكانيات الموجودة فى المنطقة إلى جانب إرسال الإمدادات ورفع مستوى التعاون الأمنى والاستخباراتى مع الحكومات الإقليمية بما فى ذلك تدخل عناصر الحكومة الأمريكية مثل القيادة المركزية والقيادة المشتركة مع أوروبا وأفريقيا وقيادات العمليات الخاصة إلى جانب التعاون مع القوات البحرية والائتلافية (حلف الناتو). وهدد الاتفاق الأطراف التى يثبت تورطها أو تساهلها مع تهريب السلاح ل«حماس» برفع مستوى العقوبات، واتفق طرفاه على إنشاء آلية لتفعيل التعاون العسكرى والمعلوماتى لمراقبة تطبيق الاتفاق. كما حملا الأطراف الدولية والإقليمية مسؤولية العمل على إنهاء الأعمال العدائية (المقاومة) ضد إسرائيل بشكل نهائى ودائم. هذا الاتفاق حسب خبراء القانون الدولى يصلح اتفاقاً بين قراصنة وليس بين دول، فهو يتجاهل القانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة وقرارات جمعيتها العامة التى تقر حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال بكل الوسائل بما فى ذلك الوسائل العسكرية وفى الحصول على السلاح لإجلاء المحتل، وتفرض على دول الجوار ودول العالم تسليح المقاومة (قرار الجمعية العامة رقم 3103)، بينما الاتفاق يعتبر المقاومة هى المشكلة وليس الاحتلال! ويطالب العالم بتأمين الاحتلال وليس بإنهائه وبإخضاع الشعب الفلسطينيالمحتلة أرضه بكل الوسائل بما فى ذلك الوسائل العسكرية! بما يجعل هذا الاتفاق «اتفاقاً جنائياً» بين أمريكا وإسرائيل ومن يتورط فى المشاركة فى تنفيذه على ارتكاب جريمة حرب ضد الإنسانية يحق للشعب الفلسطينى أن يقاضيهم بتهمة التخطيط لارتكابها. ومن غرائب الاتفاق - أو الاستغفال - أنه يدعو مجلس الأمن إلى مكافحة المقاومة بالمخالفة للميثاق الذى يدعو إلى عدم المساهمة فى تكريس الاحتلال!، ويعفى إسرائيل من مسؤولياتها كدولة احتلال طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، بل يعطى الاحتلال حق الدفاع المشروع عن النفس وينزعه عن الشعب الواقع تحت الاحتلال ويعتبر مقاومته إرهاباً... الأمر الذى يجعل هذا الاتفاق «تاريخياً» باعتباره مكملاً لتشريعات الغابة التى أرساها الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش. وفى إجراء مكمل لهذا الاتفاق (الجريمة) أعلن رئيس حكومة بريطانيا جوردون براون أن بلاده وفرنسا وألمانيا أرسلت مذكرة مشتركة (عرضاً) إلى حكومتى مصر وإسرائيل بشأن إرسال سفن حربية لمراقبة سواحل غزة والمساعدة فى مراقبة المعابر بين مصر والقطاع والمشاركة فى قوة مراقبين لمنع التهريب عبر الأنفاق بين غزةوسيناء. على هذا النحو يتعامل هذا الاتفاق وتلك المذكرة مع «حماس» بوصفها قوة عظمى ويدشنان لحرب عالمية ثالثة ضدها وضد المتورطين أو المتساهلين فى أمر تسليحها، ويمارسان سياسة إخضاع مذلة، الأمر الذى يثير الشكوك فى ما وراء هذا الاتفاق وقرار مجلس الأمن 1860، وكذلك القرار 1838 الذى سمح باستخدام القوة فى البحر الأحمر وخليج عدن بدعوى مكافحة القرصنة (المفتعلة) أمام سواحل الصومال لاستكمال قوس الحصار.. نحن إذن أمام مؤامرة أكبر من مسألة منع تسليح «حماس» أو مكافحة قرصنة. فى اتفاق سايكس - بيكو عام 1916 وضع الاستعمار القديم أساس نظام إقليمى ورسم خريطة للمنطقة بتقسيمها إلى كيانات وإنشاء أخرى ووضع دول تحت «الانتداب».. وأخرى تحت الوصاية.. بما يناسب مصالحه، ومع بداية القرن 21 بدا أن هذا النظام قد استنفد أغراضه، وأن أوضاع المنطقة رشحت قوى إقليمية تسعى لامتلاك القوة وبناء تحالفات لكى تحلم بنظام إقليمى جديد، لكن الاستعمار الجديد لا يسمح لها بذلك ويسعى إما لاحتوائها أو للدخول فى مواجهة معها لرسم خريطته. ويدشن الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى وحلف الناتو والمذكرة الأوروبية الخطوات التنفيذية على هذا الطريق بعد فشل تحقيق أى من المشروعين الإيرانى والإسرائيلى الانتصار على الآخر فى حرب لبنان 2006 وحرب غزة 2008-2009، وفى ضوء عجز عرب «الاعتدال» عن إلحاق الهزيمة بالإيرانى ناهيك عن الالتحاق بالإسرائيلى، فجاءت هذه التطورات لتدفع العرب نحو الانضواء تحت لواء مشروع غربى (الاستعمار الجديد) فيه إسرائيل اللاعب الرئيسى. وبينما كان اتفاق «سيفر» البريطانى الفرنسى - الإسرائيلى عام 1956 للقيام بالعدوان الثلاثى على مصر سرياً.. فإن الخطوات هذه المرة يتم اتخاذها بل وإعلانها على الملأ فى تظاهرة تعكس مدى ما وصل إليه انهيار العالم العربى وغياب الدولة القائدة. ومن ثم فإن المهم بالنسبة لمصر هو أن الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى (وأوروبا والناتو) يتضمن اتهاماً لمصر بالتورط (أو أقله التسامح) فى تهريب السلاح لغزة وحفر الأنفاق، وتشكيكاً فى عدم قدرة مصر على ممارسة سيادتها على سيناء وفرض سيطرتها الكاملة على سيناء، وتهديداً بفرض عقوبات فى حالة عدم التعاون، وبالتالى ضرورة القبول بالاتفاق والتعامل معه ومع آليات تنفيذه والقبول بإرسال قطع بحرية وقوات إلى سواحل غزة وشمال سيناء ومنطقة الحدود بين مصر والقطاع، أى القبول بوظيفة تأمين الاحتلال!! والنهوض بهذه «المسؤولية» والدخول فى مواجهة مع المقاومة الفلسطينية والأطراف التى تدعمها، مثلما فرض الانتداب البريطانى فى مصر على حكوماتها القيام بوظيفة تأمين الاحتلال وقواعده فى قناة السويس ضد عمليات الفدائيين!! والأخطر فى الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى هو «تعهد الولاياتالمتحدة بالعمل مع شركائها الإقليميين (مصر) على تأمين وظائف وأموال لأولئك الذين كانوا يعملون فى تهريب السلاح لحماس».. وهو اتهام لأهالينا فى سيناء بدعم الإرهاب (المقاومة).. وتدخل سافل فى شؤوننا الداخلية.. وهو أيضاً كلام له ما بعده. هذا الاتفاق على هذه الصورة يعد بمثابة إنذار من أطرافه (أمريكا وإسرائيل وحلف الناتو ودول أوروبية) بإعلان الحرب على مصر فى حالة رفض التعاون، وبالتدخل المباشر لتنفيذ المهمة. ونتأمل هنا تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس التى وقعت الاتفاق من الجانب الأمريكى فقد سعت إلى توريط مصر بالتلميح إلى موافقتها على هذه الإجراءات بدعوى أنها مكملة للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار فى الحرب على غزة، وبالتهديد المبطن فى حين آخر بالحديث عن «مسؤوليات مصر لمنع تسليح حماس». أما نظيرتها تسيبى ليفنى التى وقعت الاتفاق عن الجانب الإسرائيلى فقد أعلنت «أن الأمور لن تبقى على حالها وإسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الرد العسكرى ضد الأنفاق.. وإذا اقتضى الأمر فإن إسرائيل ستمارس حقها المشروع فى الدفاع عن النفس ولن تضع مصيرها فى يد المصريين أو الأمريكيين أو الأوروبيين»!! وقد حسم الرئيس مبارك الأمر ورد برفض وجود قوات أجنبية على الأراضى المصرية أو فى مياهها الإقليمية، وفصل بشكل واضح بين العلاقات المصرية - الإسرائيلية وبين مسؤوليات مصر والتزاماتها القومية بكلمات واضحة فى قمة الكويت العربية فى قوله لقادة إسرائيل: «إن غطرسة القوة لن تقهر المقاومة، وأمن شعبكم يتحقق بالسلام وليس بالدبابات أو الطائرات.. القضية الفلسطينية سوف تنتصر والاحتلال إلى زوال». فلم يكن متوقعاً من الرجل الذى تستند شرعيته إلى نصر أكتوبر المجيد 1973 واستكمال تحرير سيناء حتى آخر شبر فى طابا أن يسمح - وهو على بعد 27 عاماً من استلامه الرئاسة - بانسحاب مصر من شرق السويس أى العودة إلى بيئة استراتيجية تمت محاولة أولى لفرضها على مصر عام 1948 لكنها غادرتها عام 1952، وفشلت محاولة أخرى لفرضها إبان معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 نتيجة النجاح فى إعادة بناء العلاقات المصرية - العربية التى تجرى الآن محاولة ثالثة لتدمير جسورها تماماً شرق السويس.. غزة (فلسطين) بعد العراق وسوريا ولبنان بما فى ذلك سنياء. لكن هذا الموقف من مبارك لا يكفى، فقد آن الأوان لكى تتحرك مصر لتعديل المعاهدة فى ملحقها للترتيبات الأمنية فى سيناء خاصة ما يتعلق بالتواجد المصرى فى المنطقة (ج) التى تمتد من شرق العريش لمسافة 20 كيلومتراً حتى الحدود الدولية بطول سيناء، وهو التواجد المحدود الذى يعد باباً مفتوحاً تدخل منه مثل هذه الاتفاقيات والتهديدات للأمن القومى. فحسب المعاهدة قسمت سيناء إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج).. والأخيرة مسموح فيها فقط بتمركز الشرطة المدنية لأداء المهام العادية للشرطة المسلحة تسليحاً خفيفاً ويمكن تجهيزها - عند الحاجة - بطائرات هليكوبتر لكن غير مسلحة، وبزوارق خفيفة مسلحة تسليحاً خفيفاً للقيام بوظائف الشرطة العادية داخل المياه الإقليمية. وقد فرضت متطلبات الانسحاب الإسرائيلى من القطاع عام 2005 تعزيز التواجد العسكرى المصرى ب750 جندياً فقط على الحدود مع القطاع (14 كيلومتراً) وأبرم الطرفان اتفاقاً لهذا الغرض فى أول سبتمبر من نفس العام، والأولى الآن مراعاة متطلبات الأمن القومى المصرى فى مواجهة حملة (انتداب) دولية بدعوى منع تهريب السلاح لتأمين إسرائيل!! أخيراً.. هل يدرك الذين شنوا - فى بعض الصحف والفضائيات - حملة تخوين ووجهوا اتهامات بالعمالة لأهالينا فى سيناء، وشككوا عبر نفس المنابر فى سيطرة مصر الكاملة على سيناء أى جريمة ارتكبوها؟!.. وأى جريمة ساهموا ويساهمون فى التحضير لارتكابها بحق هذا الوطن وضد شعبه ومستقبله؟! لقد عومل خونة عرابى عام 1882 كالأبطال، وكافأهم الاحتلال البريطاني والخديو توفيق نجل إسماعيل بأجود أنواع الأراضى.. بعدما ساهموا فى خداع الشعب المصرى حتى هتف بعضهم ضد عرابى على طول الطريق من القاهرة إلى السويس فى طريقه إلى منفاه فى جزيرة سيلان.. ومرت الأيام وعاد عرابى بطلاً وعرف الناس من هم الخونة.. ليس لأن الشعب المصرى تغير وإنما لأن المعايير تغيرت.. فالأكاذيب إلى زوال سواء كان الخائن والى عكا أو أحمد الحلبى أو الزينى بركات. [email protected]