عاش مبدعاً ورحل فى هدوء ودون صخب، كان يوسف أبورية جزءاً من عالمه الروائى الفريد الذى رسمه لجمهوره، بمثاليته وأفراحه وأحزانه ومدينته الفاضلة التى ظل يرسمها حروفاً وينثرها أحلاماً، متحاملاً على جراحه وآلام مرضه الذى مات متأثراً به، ليبكيه قراؤه وأصدقاؤه الذين شنوا حملة لعلاجه بالخارج على نفقة الدولة، وزراعة كبد له بدلاً من كبده المريض. قال عنه أديب نوبل نجيب محفوظ «آخر عنقود الرواية المصرية»، «المصرى اليوم» زارت أبورية قبل وفاته بأيام، أثناء إجرائه فحوصات طبية، وتحدث فى حواره عن الرواية والإبداع والمشهد الأدبى وحالته الصحية وأشياء أخرى. * لماذا لم تخبر أحداً بمرضك لفترة طويلة؟ - لأننى اعتبرت نفسى مريضاً عادياً يتعاطى دواءً يحقق نتائج إيجابية، فما الداعى لكى أسبب الحزن لآخرين مادامت الأمور تمضى بنجاح، ومادام هناك حل وأمل ونهاية. * كم يكلفك الدواء؟ - 1800 جنيه شهرياً وقس على ذلك ستة أشهر هذا غير التحاليل والسونار وأنا أعالج نفسى من كدىّ ومدخراتى. * متى قررت أن يعرف الآخرون بمرضك؟ - فى الجرعة الأخيرة.. الطبيب كاد يرقص وهو يخبرنى بأننا نجحنا فالجلطة فى الوريد البابى تلاشت والورم تقلص، وطلب منى أن أقبل ما كنت أرفضه وهو زرع كبد وهذا يحتاج متبرعاً وتكلفة ضخمة ليس لى قبل بها. * كم تبلغ تكلفة العملية؟ - 400 ألف جنيه فى دار الفؤاد، وحين علم الأصدقاء بمرضى فوجئت بحملة محبة عارمة، وبكيت وأنا الذى لم أبك قبل ذلك أبداً، لقد صرت ضعيفاً إزاء هذه المحبة ولم أكن أعلم أن حميميتى تجاه الآخرين كانت تصب فى رصيد محبتى. * ماذا عن المتبرع؟ - فوجئت بأن شقيقى يعرض علىّ كبد ابنيه.. ووجدت زوجته تدعمه فى هذا الموقف الإنسانى الرائع، لكن وجود الجلطة يؤجل الزرع أو يمنعه والدواء قام بتحجيم المرض، وأحدث أشعة تقول إنه يمكن الزرع. * البعض قاد حملة لعلاجك على نفقة الدولة ومنهم أحمد المسلمانى فى الطبعة الأولى ومحمود سعد فى البيت بيتك. - ليس هذا فحسب، وإنما كان هناك أصدقاء آخرون قاموا بلفتة نبيلة مماثلة وتدخلوا لدى وزير الثقافة ليساعد فى هذه التكاليف التى تصل إلى مليون جنيه إذا قمت بالجراحة فى الخارج، أما هنا فتتكلف نصف المليون، غير نفقات تثبيت الحالة، أما عن المتبرعين فأنا أؤمن بعشق الأعضاء.. أى أننى لو قبلت عضواً ممن أحب فإننى أتعايش معه. * الكتَّاب والمثقفون قدموا بياناً لرئيس الجمهورية حول حالتك. - نعم، ولم يرد أحد إلى الآن، وأنا قروى وأؤمن بالموت وأعرف أننى لن أقدم ساعة ولن أؤخر ساعة، حتى إن قرانا نجد المقابر فى وسطها أو فى مقدمتها وكأن الموت صورة من الحياة. * ومن يستطيع تحريك هذا الموقف؟ - هذا يحتاج لقرار كبير أسوة بالمواطنين الآخرين الذين يحظون باهتمام الدولة كالزملاء من الفنانين أو لاعبى الكرة أو السياسيين، بل يجب أن يحظى المواطن العادى كمصرى بالرعاية المماثلة، وأنا كنت أمارس الأدب لمتعتى الخاصة بعيداً عن اللافتات الكبيرة من قبيل «العطاء للوطن»، وأطلب من النظام أن ينظر لى كمواطن عادى، وهذا الأمر فى يد صانع القرار ومحمد سلماوى حصل على قرار من رئيس الوزراء بخمسين ألف جنيه أثناء علاجى وهذا المبلغ هو ثمن جرعة ونصف الجرعة، وهناك مساع من عرب، وقد وعدنا الوزير ب150 ألف جنيه لكننا نعانى من الإيقاع البيروقراطى البطىء. الطبيب المعالج من جانبه قال: «لا تشغل بالك بالمال»، والأصدقاء طرحوا فكرة فتح حساب باسمى لكننى ترددت لأننى رأيت فى هذا شيئاً من المهانة والهزيمة النفسية. * حصلت من قبل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية فيما كان محفوظ على قيد الحياة حتى إنه وصفك ب«آخر العنقود». - عندما أعلنت سامية محرز عن فوزى سألتنى هل ستقبل الجائزة قلت ولم لا؟ وهى تحمل اسم نجيب محفوظ، كما أننى رأيت أن هذه الجائزة ستوسع نطاق قرائى، لذلك كنت سعيداً بها. * أحدث رواياتك كتبتها أثناء علاجك وبعد اكتشافك لمرضك فهل نجد أصداءً لهذه الفترة وأجوائها النفسية؟ - الرواية لا علاقة لها بمرضى إطلاقاً، وقد كانت تتملكنى قناعة قوية أننى أمارس حياتى العادية ولا أريد أن أنحرف عن النسق المعتاد لحياتى. ولو التفت للمرض كعائق عن الإبداع لأمضيت حياتى فى صراع معه ونسيت الكتابة تماماً ولذلك فإن الرواية أنقذتنى من هذا ومنحتنى المبرر لأعيش حياتى، فهى ليست رواية الكلمة الأخيرة بل تدور حول قصة حب غريبة ونادرة وانحياز إنسانى للمرأة، وأنا ارتباطى بالمرأة إيجابى جداً ومعظم أصدقائى من النساء وعلاقتى بهم عامرة، وانتهيت منها، وسينشر أول فصولها فى إحدى الصحف قريباً وكانت حيرتى فى اختيار اسم لها وإلى الآن اخترت لها اسماً مؤقتاً وهو «ليالى البانجو» وهى تجسد حالة الجيل الجديد فى المدن الصغيرة التى تتشبه بالمدن الكبيرة عبر حالة زائفة. * وماذا عن نجيب محفوظ؟ كثيراً ما كان يتملكنى الحياء فى الاقتراب من هذا الكاتب الكبير، ولعل هذا الرجل العظيم كانت لديه فراسة قوية فاستشعر محبتى له وحيائى فى الاقتراب منه، وحين صدرت مجموعتى الأولى «الضحى العالى» ذهبت للأهرام وتركت له نسخة منها كما تركت نسخة ليوسف إدريس، وفوجئت فى أكثر من حديث لنجيب محفوظ فى الإذاعة أو التليفزيون يصفنى فى أحد هذه الأحاديث ب «آخر العنقود»، وخجلت أن أتصل به وأشكره، أما يوسف إدريس فقد فوجئت أنه قدم قصة «الضحى العالى» لبرنامج فى صوت العرب وتم تقديمها فى سهرة درامية.. وحين حصلت على جائزة الجامعة الأمريكية كان من تقاليد الجائزة أن أزور نجيب محفوظ فى بيته، فهو الذى رصدت الجائزة باسمه، وقد بلغنى من الأستاذ محمد سلماوى أنه أثناء جلسته مع الأستاذ نجيب فى شبرد سأله نجيب محفوظ عمن حصل على جائزته، فقال له سلماوى إننى الذى حصلت عليها، فقال الأستاذ نجيب هذا كاتب مقتدر، وسعدت جداً بهذا التقدير، فلما زرته فى بيته بعد حصولى على الجائزة قلت له: «أستاذ نجيب أنت وصفتنى بأننى آخر العنقود»، فقال: و«مازلت.. لأنك آخر كاتب قرأته» وطلب منى نسخة من الرواية الفائزة، فلما أهديتها له على حياء طلب منى أن أكتب له إهداءً عليها، فكتبت الإهداء، فقال: «اقرأه علىّ»، فقرأته، فقال: «هذا الإهداء فى حد ذاته يحتاج جائزة»، وبعد أيام اتصل بى الأستاذ المرافق لنجيب محفوظ والذى يقوم بالقراءة له، وقال لى إن الأستاذ طلب منه المرور علىّ واصطحابى إليه وذهبت إليه ليحتفى بى. * ما قصة استقالتك من نادى القلم الدولى؟ على الرغم من عدم اختصاصى فى المسائل الإدارية والحسابية، لكننى فوجئت بترحيب الجميع فى النادى أن أكون أميناً للصندوق، فشعرت أن هذا ينطوى على نوع من التقدير، ووجدتنى فى كل انتخابات عامة الجميع يزكوننى.. إلا أننى رأيت هذا الموقع المهم يستهلكنى بدنياً، ويستهلك وقتى فكان علىّ أن أوفر صحتى ووقتى لأنجز مشروعى الإبداعى، ولقد أخذت هذا القرار، حينما جاءت قيادة شابة على رأس الصندوق تستطيع أن تضطلع بمعظم المسؤوليات، ذلك أننى حين كنت أميناً للصندوق كانت الأستاذة والأم الدكتورة فاطمة موسى رئيسة النادى، وكنت أنوب عنها فى بعض المسائل الصغيرة التى لا يمكنها القيام بها بحكم السن. * كان لك دور فى الحركة الطلابية فى السبعينيات.. إلى أى حد انعكس هذا على إبداعاتك وعلى مخزونك المعرفى؟ - نقلنى من وعيى الريفى وتوجهى الأدبى من الكلاسيكيات الأدبية المصرية كما حقق لى نقلة فى وعيى السياسى لدرجة من الفهم للمجتمع المصرى، فهو ليس كتلة واحدة وإنما طبقات وتوجهات، وكانت هذه الحركة الطلابية يقودها اليسار من ناصريين إلى ماركسيين، وكان لانخراطى فى هذه الحركة الطلابية تأثير علىّ فى تشكيل منهج وتوجه وقناعة فكرية وسياسية، واكتشفت أننى كان ينقصنى الكثير، ولكن التجلى السياسى المباشر وأصداء هذه المشاركة لا تظهر بشكل مباشر أعمالى لكنك تجدها فى أعماق نصوصى ومن هذا مثلاً التحولات الاجتماعية الطارئة على القرية بعد السبعينيات.