هنا.. تكلم الله..!! «.. يا موسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى.. إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى». إلى هذه الأرض لجأت واحتمت ابنة حاكم الإسكندرية التى آمنت دون بقية أسرتها، عذبوها إلى أن ماتت، فقامت الملائكة بنقل جسدها فاكتشفوه بعد 500 عام هنا.. ويقال فى رواية أخرى إنها هربت من بطش أبيها إلى هذا المكان البعيد واختارته لتكون بالقرب من جبل موسى والشجرة المعلقة، إنها القديسة «كاترين» التى سميت المدينة باسمها.. مدينة «سانت كاترين». عندما تتحدث عن النقاء والصفاء والروحانية والطهر، فأنت بالتأكيد تحلم بأن تطأ قدماك أرض هذه المدينة المقدسة.. لا أعرف لماذا شغلنى ذلك المكان بل ترقبت الترحال إليه منذ اللحظة الأولى التى قررت فيها أن أذهب إلى جنوبسيناء.. بالتأكيد سيكون إحساسى مختلفاً ومميزاً عن أى مدينة أخرى وطأت فيها بقدمى. هى ليست شرم الشيخ ودهب ونويبع والعريش، ولكنى أتوقع أن تنتابنى حالة من الرهبة والشجن والروحانية.. حالة شبيهة بتلك التى أصابت كل حواسى وشجونى ما أن دخلت «مدينة القدس».. ولا أخفى عليك قارئى بأننى كنت أترقب حتى دقات قلبى طوال الطريق المتوجه إلى مدينة «سانت كاترين». لم يكن يجعلنى أفيق من توقعاتى وتساؤلاتى سوى تلك اللقاءات التى جمعتنى بالعديد من أهالى جنوبسيناء، خاصة أننى قد اتخذت طريق الصحراء من دهب إلى سانت كاترين، والحق هو الأصعب والأخطر ولكنه «الأكثر تشويقاً»، فمن خلاله أستطيع رؤية البشر الذين لايزالون يعيشون بفطرتهم، أو كما لقبهم مرافقى البدوى «بدو أصلى، مش تايوانى». البداية كانت من عند وادى غزالة وهى منطقة فى الصحراء لا يميزها سوى ساكنيها من قبيلة مزينة.. سرعان ما تستطيع أن تشم رائحة البؤس والفقر والحرمان ما أن تقع عيناك على ملامح وجوههم.. حتى الجمال التى بركت بجانبهم هى الأخرى بائسة تختلف عن مثيلتها المنتعشة تحت سفح الأهرامات الثلاثة بالقاهرة.. جلست بجانبهم على أرض الصحراء التى يفترشونها بقطع مهلهلة من السجاجيد العربى القديمة، وقبل أن يبدأوا الحديث معى انهمك الجميع فى إعداد سجائرهم فهى مختلفة عن أى سجائر يمكن أن تراها فى حياتك! فى يد كل واحد منهم «ورقة البفرة» البيضاء الرقيقة وعلى الأرض ورقة أخرى بها بعض الأعشاب الخضراء.. يضعونها فى ورق البفرة لتبدأ رحلة لف السيجارة بمهارة واتقان وخفة يد وسرعة كالبرق تماماً.. والحق رائحته نفاذة قوية ولا تطاق، هذا هو أول انطباع جاءنى بعد أن انبعثت رائحة دخانهم فى الهواء الطلق.. ويبدو أن ملامح الدهشة والتساؤل قد ارتسمت على وجهى وبدت واضحة للجميع ولم يتركنى الشيخ العجوز كبيرهم فى أن يأخذنى تفكيرى إلى بعيد عندما قال لى: - لا تخافى يا بنيتى هذه السجائر ليست بانجو أو مخدرات، وإنما دخان عربى قديم لا يدخنه ولا يقوى عليه سوى الأشداء من البدو مثلنا. وقبل أن أجيبه قال لى أحدهم ساخراً: علشان يبقوا يقولوا البدو تجار مخدرات.. ما هيه دى التهمة الجاهزة دايما. رجل بدوى قطع الحديث الساخر قائلاً: البدوى فينا مش لاقى يوكل الجمل بتاعه، يبقى هيزرع مخدرات وبانجو، ثم إن زراعة المخدرات عاوزة مياه والحمد لله مش متوفرة.. نحنا ما عندنا مياه حلوة للشرب ولا كهرباء ولا بنية أساسية.. أولادنا بنريد لهم يتعلموا لكن ما فى مدارس.. الحاجة الوحيدة اللى بتأكلنا عيش هى رحلات الجمال والسفارى اللى بيعملها البدوى فينا للسياح الأجانب، وحتى هذه الرحلات خلص زمانها وقفلت أبواب الرزق فى وجوهنا. *ساد الصمت جلستنا فسألت: لماذا راحت أيام سفارى الجمال.. هل ضربت السياحة مثلاً وقل عدد السياح الأجانب؟ - رد أحدهم بصوت جهورى مدو فى أرجاء الصحراء: بالعكس السياحة فى جنوبسيناء حالها يسر، وهذه الأيام تعد موسم توافد السياح.. ولكن الحكومة منعت حكاية إقامة السياح فى الصحراء لمدة 5 أو 10 أيام، وأصبحت رحلات السفارى هى رحلة اليوم الواحد فقط، يعنى بنطلع بالجمال مع السياح من 8 صباحاً إلى 5 مساءً وبتصريح من الأمن، وهذا بالطبع انعكس بالسلب على سياحة السفارى، لأن السائح يأتى إلى مصر وتحديداً إلى جنوبسيناء ليس للبحر فقط أو لزيارة دير سانت كاترين وجبل موسى، ولكن يكون ضمن برنامجه السياحى الإقامة فى الصحراء لمدة 5 أو 10 أيام، وعندما ألغى الأمن هذا الموضوع وأصبحت الرحلة يوماً واحداً، السائح لا يوافق من الأساس على تأجير الجمل لمدة يوم واحد، والعديد من الشركات السياحية التى كانت تتعامل معنا ألغت تعاملها، لأن الأفواج السياحية قامت بإلغاء رحلاتها إلى جنوبسيناء. *هنا تدخلت فى الحوار متسائلة: ولماذا يقوم الأمن بإلغاء هذا النوع من السفارى؟ - قاطعنى بدوى آخر قائلاً: هذا القرار جاء مفاجئاً لنا بعد حادث الاختطاف الذى تعرض له السياح الأجانب فى منطقة «الجلف الكبير» بالصحراء الغربية وعندما سألنا.. قالوا لنا إن السبب هو إجراءات أمنية.. ونحن نحترم الأمن وإجراءاته، ولكن كل منطقة مختلفة عن الأخرى.. نحن فى جنوبسيناء بيوتنا مفتوحة وعيالنا بتاكل من ورا سياحة الجمال.. وكان من الممكن أن يقوموا بتأمين المناطق التى يقيم فيها الفوج السياحى أو أن يأخذون إقراراً علينا بأننا مسؤولون عن سلامة الأجانب، وإذا حدث مكروه لأى شخص يعاقبون شركة السياحة أو الدليل البدوى، ولكن ما حدث هو استسهال لأنه أسهل كلمة عندهم «إلغى» دون النظر إلى عواقب هذا القرار. قاطعه كبيرهم العجوز قائلاً: ومع ذلك أعترف لك وأقول إن كل الشركات السياحية الآن وكل أصحاب الجمال يقومون برحلات سفارى مع الأفواج السياحية من الأجانب بالتهريب دون أن نلجأ إلى التصاريح الأمنية، ورغم أن هذا يعرضنا للخطر فإننا نقوم به، وصحيح أننا نكون مرعوبين ولكن لقمة العيش! بدوى آخر تدخل قائلاً: هم دائماً يدفعوننا إلى اللجوء للطرق غير المشروعة.. نحن مثلاً نلجأ لتهريب السياح لكى نسعدهم ونحن أيضاً نسعد، ولكن غيرنا يلجأون لتجارة المخدرات والسلاح وتهريب الأفارقة إلى إسرائيل.. وهم أيضاً الذين دفعوهم إلى ذلك، لأنهم يُضيقون علينا المعيشة.. هم يتركوننا بلا عمل ولا حتى يُملكّونا أراض زراعية ولا يدخلوا لنا المياه الحلوة ولا الكهرباء ولا يعلمون أولادنا، ويطالبوننا بأن نمشى فى السليم.. طيب كيف يعنى؟.. وفروا لنا مصدر دخل ونحن لا نلجأ إلى هذه الطرق.. وإن لجأنا حاسبونا! نحن ما لاقيين التموين يبقى هنتاجر فى المخدرات ونزرعها -الكلام على لسان رجل آخر- صحيح فى ناس بتاجر فى الممنوعات لكن مش كلنا.. طلعوا علينا سُمعة سيئة.. ولفقوا تهم لبدو كتير وكان مصيرهم الجبل.. حتى الجمال حرموها من طعامها.. حسبى الله ونعم الوكيل. شردت بذهنى عندما ساد الصمت بين الجالسين، ولم أتردد كثيراً فى أن أطلب منهم مباشرة رؤية السيدات والحديث معهن وأيضاً تصويرهن.. وقد يكون هذا طلباً عادياً ووارداً جداً، ولكن من وجهة نظرك أنت قارئى لأن المرأة البدوية تعد من المحرمات المحلية والدولية والعالمية عند البدو وعلى حد قولهم «عند المرة تطير فيها رقاب»، وكلمة «المرة» هنا ليست إهانة، ولكنها لهجتهم هم لا يقولون أبداً امرأة. ارتبكت الوجوه وسادها الإحمرار وجحظت العيون، ويبدو بالفعل أننى قد دخلت إلى المنطقة المحظورة.. لم تدم تلك الحالة طويلاً، خاصة عندما أمرهم كبيرهم بأن أذهب إلى منطقة «بير صغير» حيث تسكن زوجاتهم وأطفالهم وأمرهم أيضاً بأن يجعل زميلى المصور يلتقط كادراته لهم وعلى حسب تعبيره وكما طلب منى أن النساء أيضاً لهن مشاكلهن ولكن عليك الأمانة فى الكتابة.. لكى يعرف بقية المواطنين فى مصر أن هناك فئة من نسيج مجتمعهم منسية! قبل أن يغير رأيه كنت فى طريقى إلى منطقة «بير صغير» فى قلب الصحراء.