فى الحفل الذى أقامه السفير الفرنسى لتكريم الدكتور إسماعيل سراج الدين بمناسبة منحه وسام «اللجيون دونير» Legion d,honeure قال السفير عبارة جميلة موحية «لقد ظلت مكتبة الإسكندرية بغير مدير أكثر من خمسة عشر قرناً والآن وجدت مديرها الكفء المتميز بعد طول غياب. وكان يشير إلى الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين وكانت إشارة رشيقة وجميلة. وفى ذلك اليوم عرفت لأول مرة أن إسماعيل سراج الدين يتقن الفرنسية بنفس القدر الذى يتقن فيه الإنجليزية بل ينطقها على نحو جميل يليق بتلك اللغة الجميلة. على أى حال أريد أن أعبر عن سعادتى بمكتبة الإسكندرية واعتزازى بالمشاركة فى بعض أعمالها وأريد أن أكتب اليوم عن مكتبة الإسكندرية وذاكرة مصر. لقد كانت مكتبة الإسكندرية فى الماضى البعيد وعاء الثقافة العالمية الموجودة آنذاك، وكانت مقصد طلاب العلم من كل حدب وصوب. والآن تقوم المكتبة من خلال أجهزتها ولجانها المتعددة بدور الحافظ والحاضن لذاكرة مصر وتاريخها. ومن الأمور التى تقدر لإسماعيل سراج الدين إيمانه الشديد بدور الشباب وإمكانية حفزه وتدريبه ودفعه إلى الأمام لكى ينجز كثيراً من المهام، وقد استطاع أن يجعل المكتبة تحتضن عدداً من هؤلاء الشباب، هم من خيرة شباب هذا البلد. والدكتور إسماعيل لا يبخل على هؤلاء الشباب بشىء، يدفعهم معنوياً بأن يذكرهم بالاسم، وينسب إليهم الفضل ويكافئهم مادياً قدر طاقة المكتبة بمواردها المحدودة وميزانيتها التى لا تساوى ربع ميزانية الأمن المركزى - من غير حسد فالأمن المركزى هو الذى يحمينا جميعاً ويحاصر جامعاتنا وتجمعاتنا ويستحق منا كل الشكر - وفى تصديره للمطبوعة الجميلة التى تحمل اسم «ذاكرة مصر المعاصرة» يحرص الدكتور إسماعيل على أن يذكر أسماء فريق الشباب الذى يقوم بهذا العمل تحت إشراف الدكتور خالد عزب، اسماً اسماً، ويصف إسماعيل هذا العمل بأنه ذاكرة كل المصريين.. بلا استثناء، بدءاً من الفلاح البسيط والعامل المجد، إلى الملوك والرؤساء، بدءاً من الأحداث المهمة إلى يوميات المصريين. هذه الذاكرة ستجعلك تعيش مع المصريين كيفما عاشوا، فى لحظات حزنهم وأفراحهم، فى انتصاراتهم وانكساراتهم. هذه المطبوعة الجميلة التى صدرت عن مكتبة الإسكندرية ليست إلا إشارات لعدد من الموضوعات التى قام بها الفريق، الذى صنف تاريخ مصر منذ عهد محمد على، وحتى يومنا هذا وفهرسته فهرسة «رقمية» -لست أعرف حتى الآن بدقة معنى «رقمية» أو «digital» على وجه التحديد- ولكنى أقرؤها وأحاول أن استوعب معناها قدر مستطاعى. هذه المطبوعة الجميلة تقول لنا إن ذاكرة مصر المعاصرة التى أعدها هذا الفريق تضم بعض جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والعمرانية والاقتصادية لمصر وتطورها خلال القرنين الأخيرين. تضم الذاكرة كيف تطورت المجالس النيابية فى مصر وتطور دساتيرها وأحزابها وتنظيماتها السياسية، وأقرر وأنا واحد من المتخصصين فى هذا الموضوع أنى استفدت فائدة كبرى من مراجعة هذه الذاكرة بل إننى صححت بعض معلوماتى. ومن أجمل ما تقرؤه فى هذا الفهرس الجميل الجزء الخاص بإنشاء سكك الحديد فى مصر وكيف بدأ الخط الأول -والذى يعتبر الأول فى أفريقيا ومن أوائل الخطوط فى العالم كله فى يناير 1856 أى منذ قرن ونصف القرن وعامين على وجه التحديد- هكذا بدأت مصر عفيه، كذلك الجزء الخاص بدار المحفوظات العمومية وتاريخها وبعض محتوياتها ووثائقها النادرة. ومن أطرف ما تقرؤه فى هذه الذاكرة تاريخ العملات التى ضربت بدءاً من سنة 1808، وفى ذلك العام ضربت عملة مصرية من الذهب بقيمة عشرة قروش! الشىء المهم، الذى غاب عن هذه الذاكرة أو لعله غاب عن فهرسها فقط، الذى قرأته وتمتعت به هو ضبط النيل ونظام الرى والقناطر التى بدأت منذ عهد محمد على فى القناطر الخيرية وحتى السد العالى. هذه مطبوعة ذاكرة مصر التى أصدرتها مكتبة الإسكندرية والتى قال عنها الدكتور جمال عزب الذى أشرف على فريق العمل: «إننا هنا لا ندشن مشروعاً بحثياً لفريق عمل سهر الليالى وعمل بجد فحسب، بل نقدم للوطن ذاكرته فى صورة رقمية لا تحترق ولا تختفى لأى سبب بل ذاكرة مستمرة للأجيال القادمة، فكأن الماضى يبعث من جديد فى صورة مستديمة». حقاً إنه عمل عظيم يستحق كل التقدير والشكر والتحية لأصحابه. وإلى جوار هذا العمل الجليل تقوم مجموعة أخرى من الباحثين بقيادة الأستاذ الدكتور صلاح فضل بالعكوف على إتمام «موسوعة أعلام مصر» فى القرنين التاسع عشر والعشرين وهى موسوعة تضم الأعلام الذين انتقلوا إلى الدار الآخرة فى كل فن من أدب وفلسفة وقانون وشعر وأدب شعبى ومسرح وفنون تشكيلية. إنها حقاً موسوعة تخلد جزءاً مهماً من ذاكرة مصر وتتكامل مع الذاكرة التى أشرت إليها من قبل فى هذا المقال. وموسوعة أعلام مصر تعكف لجنتها برئاسة الصديق الدكتور صلاح فضل على اختيار أسماء هؤلاء الأعلام وتحدد من يكتب عنها من المتخصصين، ثم من يقوم بالمراجعة لكى يتم التأكد من دقة ما يرد فى الموسوعة من معلومات. وهكذا تتكامل ذاكرة مصر. لم أبالغ عندما قلت إن مكتبة الإسكندرية منارة حقيقية وليت جامعاتنا تفعل مثل فعلها، مع أنها تملك من أعداد الأساتذة ومن الموارد أكثر بكثير مما تملكه مكتبة الإسكندرية. وكما قلت وأقول دائماً: الإدارة السيئة تبدد ثروة، والإدارة الجيدة تخلق ثروة.