تستطيع أن تفهم تصريحات الكثير من مسؤولينا بالعكس، فإذا قالوا لك لن نبيع المؤسسة «الفلانية» فاعلم أنهم سوف يقومون بعرضها فى سوق «النخاسة» عما قريب، وإذا سمعت من أحدهم كلاماً عن عدم وجود نية لتعديل مادة معينة فى الدستور فتوقع أن هذه المادة بالذات سوف تُطرح للتغيير خلال مدة قريبة، كذلك إن قالوا «لن نسمح برقابة دولية على انتخابات الرئاسة» فتأكد أن الحكومة سوف توافق - بعد حين - عليها. فكلام المسؤولين فى هذا البلد لابد أن يُفهم بعكس معناه! فبعد البيان الذى أصدره الدكتور محمد البرادعى واشترط فيه ضرورة وجود رقابة دولية على الانتخابات لكى يقدم على خطوة الترشح للرئاسة فى 2011، بادر العديد من المسؤولين إلى رفض الفكرة، وأكد الدكتور مفيد شهاب، وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس النيابية، (ويصفه البعض ب«محامى الحكومة») أن أمر الإشراف الدولى على الانتخابات غير مقبول على الإطلاق، لكننا فوجئنا به يُعدّل لهجة حديثه عن الموضوع – بعد ذلك - ليعلن أن موضوع الرقابة الدولية على الانتخابات محل دراسة، وأن الحكومة لا تمانع فى دعوة عدد من المنظمات والشخصيات الدولية لحضور الانتخابات. وقد واكب هذا التصريح التمهيد لعقد اجتماع المجلس الدولى لحقوق الإنسان، الذى سوف يبحث ضمن أعماله الملف المصرى! بالإضافة إلى الدعوة التى تبناها تقرير «مشروع الديمقراطية فى الشرق الأوسط» بضرورة أن يقوم الرئيس أوباما بالضغط على مصر من أجل قبول الرقابة الدولية على الانتخابات! فإصرار الحكومة على رفض أمر معين يعنى أنها فى طريقها لقبوله، ويمكن أن نشبهها فى موقفها هذا بالفنان الراحل «عبدالفتاح القصرى» فى فيلم «ابن حميدو»، حينما كان يصرخ فى وجه زوجته (ويبدو أنها كانت أمريكية!) ليقول لها: مستحيل كلمتى تنزل الأرض أبداً، وبعد أن تريه الزوجة «العين الحمرة»، يستجيب لها قائلاً: خلاص حتنزل المرة دى، بس اعملى حسابك المرة الجاية لا ممكن تنزل أبداً. فالحكومة تطبق نظرية المعلم حنفى (اسم عبدالفتاح القصرى فى الفيلم) فترفض بعنجهية أى إشراف دولى على الانتخابات فى البداية، ثم تقبل الأمر بعد ذلك، دون أن تتخلى عن عنجهيتها. ففى الوقت الذى وافقت فيه الحكومة على دراسة موضوع الإشراف الدولى على الانتخابات، نجدها تؤكد ب«عنجهية» – على لسان الدكتور مفيد - أن الموافقة لا تعنى السماح بمتابعة الإجراءات كاملة وعملية التصويت والفرز، لكن المتوقع – فى ظل تبنى نظرية المعلم حنفى فى الأداء – أن تتراجع عن هذا الأمر أيضاً، وتسمح بالرقابة الدولية على الإجراءات الأساسية للانتخابات، وتقبل بأن «تنزل كلمتها الأرض المرة دى»، رغم تأكيدها – على لسان الدكتور شهاب – أن الموافقة على ذلك تعنى اعترافاً ضمنياً من الحكومة ب«الغش»، والرجل بالطبع يقصد «التزوير»، لكن أدبه الجمّ منعه من استخدام هذا اللفظ وهو يتحدث عن مقام الانتخابات الرئاسية. وقد حاولت الحكومة – من قبل - التملص من قصة الرقابة الدولية على الانتخابات من خلال استخدام الأسلوب المصرى الشهير فى «الفصال» لكنها فشلت فى ذلك. فقد اقترح أنس الفقى، وزير الإعلام، استخدام «الرقابة الإعلامية» كبديل للرقابة الدولية، إذ يرى أنه يكفى جداً أن تراقب أجهزة الإعلام الحكومى أو «المحوكمة»، كالقنوات التليفزيونية الخاصة، أحداث العملية الانتخابية لتحدد مستوى نزاهتها ! ولا مانع من أن يشارك فى هذا «المولد» أيضاً بعض أجهزة الإعلام العالمى، فى ظل رقابة أمنية حكومية مشددة طبعاً! لكن فكرة الوزير ماتت بعد لحظات! وهناك مؤشران أساسيان يمكن الخروج بهما من موافقة الحكومة على دراسة موضوع الرقابة الدولية على الانتخابات. أولهما: أن الجهود التى تقوم بها القوى السياسية الساعية نحو التغيير، وكذلك بعض الأفراد، يمكن أن تحقق الكثير من النتائج الإيجابية، إذا أحسن توظيفها. فلا يمكننا الفصل – مثلاً – بين وجود اتجاه داعم للفكرة لدى العديد من القوى والمنظمات الدولية والدعوة التى تبناها البرادعى بضرورة وجود إشراف دولى على الانتخابات الرئاسية، فمن الواضح أن البرادعى «راجل شغال» وهو يستفيد فى ذلك من مكانته الدولية التى اكتسبها لدى العديد من المنظمات والشخصيات على مستوى العالم. أما المؤشر الآخر فيشير إلى أن الحكومة أصبحت فى خطر حقيقى، فالسهم الذى نفذ لن يستطيع أحد أن يعيده مرة ثانية إلى القوس. ومن المعلوم أن أى انتخابات نزيهة لن تضمن للنظام الحالى الاستمرار. فلنا أن نتصور، إذا قبلت الحكومة بشكل نهائى مسألة الرقابة – وهو أمر متوقع كما ذكرنا – عدد المقاعد التى سوف يحصل عليها الحزب الوطنى فى انتخابات مجلس الشعب المزمع إجراؤها هذا العام؟ إنه بحال من الأحوال لن يحصل على الأغلبية، وسوف يبتلعه مرشحو جماعة الإخوان وغيرها من الأحزاب السياسية فى الشارع. انطلاقاً من هذه النتيجة لنا أن نتوقع فرص أو حظوظ مرشح الحزب الوطنى فى انتخابات الرئاسة القادمة بعد أن يصبح نوابه أقلية داخل المجلس «الموقر»! ولنا أيضاً أن نتصور حظوظ مرشح الحزب، إذا خرجت انتخابات الرئاسة نظيفة ونزيهة تحت رقابة دولية حقيقية. إن وجود حكام أجانب – إذن - يمكن أن يقلب المعادلة رأساً على عقب، وسوف يدفع اللاعبين السياسيين إلى الاعتماد على أقدامهم وعقولهم وقدراتهم من أجل إقناع الناس. ووقتها سوف يرحب الجميع بمن يفوز فى هذه الانتخابات، ويرضى الكل عن النتيجة أياً كان الفائز فيها، سواء كان الرئيس مبارك أو نجله أو البرادعى أو أيمن نور أو أى مرشح آخر. إن المناخ المحلى والدولى لن يتيح للحكومة المصرية أن تدير الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية القادمة بطرقها وأساليبها المعتادة، ووقتها سوف تختلف أمور كثيرة فى هذا البلد. قد يرى البعض هذا الأمر بعيداً، لكننى أراه قريباً، إيماناً منى بأن كلام الحكومة مدهون ب«زبدة» يطلع عليه النهار يسيح، وأن مسؤولينا محترفون فى «لحس» كلامهم!