ربطتنى لبعض الوقت، ربما بحكم سنوات الغربة الطويلة فى باريس، علاقة طيبة بالمفكر الفرنسى المعروف روجيه جارودى الذى استقرت نفسه، حتى هذه اللحظة، باعتناقه للدين الإسلامى بعد أن ظل يطوف حول المسيحية فى صورتها البروتستانتية ثم انتقل منها إلى الماركسية، واشتراكية التسيير الذاتى، إلى أن دخل حظيرة الإسلام، ورفض تغيير اسمه من جارودى إلى رجاء الدين، لأن الدين الإسلامى أكبر من أن يتم إدخاله فى قمقم العروبة، اتصل بى ذات مرة روجيه جارودى يطلب أن يلتقى سفير قطر فى باريس وكان اسمه «العطية»، الذى تولى لاحقاً رئاسة مجلس التعاون الخليجى، ولسابق معرفتى بالرجل، وهو سياسى محنك، حصلنا على موعد فى اليوم التالى، وذهبت برفقة جارودى إلى السفارة القطرية وفوجئت بأن جارودى بعد أن تحدث عن المركز الثقافى الذى يحمل اسمه فى إسبانيا وإمكانية دعم السفارة للنشرة التى كان يُصدرها فى حينه تحت عنوان «شرق وغرب»، طلب من السفير «العطية» طلباً غريباً وهو أن يسمح لزوجته الفلسطينية أن تلقاه فى الدوحة وهذا معناه أن يقوم السفير بأمرين: أن يعطيه تأشيرة دخول إلى قطر.. ويعطى زوجته المقيمة فى دمشق تأشيرة دخول ثانية، بحيث يكون اللقاء فى أحد فنادق الدوحة! وأعترف بأنها المرة الأولى التى كنت أعرف فيها أن السيد جارودى له زوجة ثانية «فلسطينية مسلمة»، وأذكر جيداً أن السفير العطية قد احتفى بطلبيه وأكد له أن كل ما يريده سيكون موضع التقدير والاهتمام.. بل إن الفندق سيكون مستعداً لاستقبال جارودى وزوجته.. وبعد أيام كان لابد أن أذهب للقاء جارودى فى منزله. وعندما دققت الباب، وجدتنى أمام سيدة فى الأربعين أو يزيد قليلاً، كانت متوسطة الطول تلبس ملابس أنيقة فى غير فخفخة، ورحبت بى فى غير مبالغة.. واضطررت أن أنتظر عدة دقائق «وقوفاً» ريثماً يهبط للقائى السيد روجيه.. وعلى عادة الفرنسيات العجائز نسبياً يدخلن فى حديث مع ضيوفهن لا ينتهى.. باختصار فهمت من الحديث أنها زوجة السيد جارودى، هكذا قالت، وأنها تعمل ناظرة مدرسة فى ضاحية «شيل»، وهى الضاحية التى كنت بالمصادفة أسكن فيها.. وأذكر أنها كانت تتلفت فى غير اطمئنان أثناء حديثها معى.. وعندما لقينى روجيه جارودى أسفل السلم الذى هبط عليه، لم يرحب بها على الإطلاق وبات وكأنه يتجاهلها عن عمد.لكن فى مكتبته المكتظة بالكتب، من كل لون وحجم، أخبرنى أن هذه السيدة ليست زوجته، جاء ذلك بشكل عارض وهو يحدثنى عن كتابه «الأصوليات»، الذى أخبرنى أن الناشرين فى لبنان سرقوه ونشروه مثنى وثلاث ورباع، دون أن يحصلوا على موافقته!، تركت جارودى وهاجس يسنح فى نفسى: هذا الرجل لم أرتح له، فعلامات الاستفهام التى يرسمها حول نفسه أكثر من الإجابات، خصوصاً عندما تحدث معى عن أن كلمة «أمى» التى يوصف بها صاحب الرسالة المحمدية لا علاقة لها بما نعرفه عنها من صفات، «وهذا حديث آخر».
