علامات الاستفهام فى مصر كثيرة.. ولكن علامات التعجب أكثر.. فخلال الأشهر الأخيرة تجسدت «علامة تعجب» كبيرة، وتضخمت حتى صارت بطول البلد وعرضه، ومع ذلك لم يتوقف أحد أمامها.. لا النظام الحاكم بحزبه وحكومته، ولا النخبة المتحفزة بصراخها الدائم دون أن تقدم للمجتمع أفكاراً وحلولاً لمشكلات وأزمات تكاد تتحول إلى «كوارث»! كيف لأمة فيها سلطات وحكومة ومفكرون وسياسيون وأحزاب ب«الزوفة» أن تصمت أمام ظاهرة تكالب وتهافت شبابها لبيع أعضاء أجسادهم مقابل عدة مئات من الجنيهات.. بأى ضمير نتحرك، وكيف نغلق أعيننا وننام بهدوء، ونحن نعلم أن فى مستشفيات كثيرة تجرى عمليات جراحية فى ظلام الليل لانتزاع «كلية» مصرية وزرعها فى جسد غريب، جاء صاحبه بدولاراته الزهيدة إلى «السوق الرائجة» لبيع الإنسان مثل قطع غيار السيارات؟! ربما تكون قد أُصبت بصدمة قاسية - مثلى تماماً - وأنت تطالع التحقيق الصحفى، الذى أجراه الزميل ناجى عباس فى أوروبا، ونشرته «المصرى اليوم» على صفحة كاملة يوم السبت الماضى.. «ناجى» نقل اعترافات تفصيلية لناجين من مراكب «الموت» والهجرة غير الشرعية..شبان يتدفقون حيوية باعوا أعضاءً من أجسادهم لتوفير مصروفات رحلة «الهروب الكبير» من مصر.. السماسرة يقتلونهم فى عرض البحر، ويقذفون بجثثهم للأسماك المتوحشة.. «هانى» مثلاً اعترف بأن أحد السماسرة قتل أمام عينيه شابين من قرية «نوسة الغيط».. والحلم الذى يموت من أجله «الشبان» هو «وجبة طعام واحدة فى اليوم» ومكان يليق بإقامة «الحيوانات».. الموت هنا كما يقول الأديب العالمى «آرنست هيمنجواى» هو الحل الأسهل لحياة بلا روح! يقول «كتبة» الحكومة وحملة أختام النظام «إيه المشكلة.. الموت علينا حق.. وكل يوم فيه ناس كتير بتموت.. وآخر أتوبيس وقع فى الترعة مات فيه 57 مواطن.. وكمان حد قالّهم يبيعوا كليتهم.. ده طمع وجشع وحرام شرعاً».. لا تتعجب فهذا ما يقال بالفعل.. لذا فليس أمامنا سوى مناقشة هؤلاء والأجهزة التى تتبنى نفس وجهة النظر بذات المنطق رغم اعوجاجه. مبدئياً.. تعالوا نتفق على أن «المواطن» عند هؤلاء بلا ثمن.. أنا وأنت لا نفرق كثيراً، لأن عندهم من الصنف ده 80 مليون حتة.. بيع كليتك أو ولّع فيها إنته حر.. شيل خيبتك وإحباطك وضياعك واركب البحر لتموت فى أعماقه أو تموت فى الغربة المهينة دى مشكلتك يا طماع.. البلد زى الفل والشغل كتير والرزق طافح على المصريين، واللى مش عاجبه يروح فى «الداهية» اللى يختارها! حسناً.. دعونا من الإنسان المصرى وقيمته.. وتعالوا نتكلم عن «الأمن القومى» لبلد تحيطه الأخطار من كل اتجاه.. هل فكر أحد فى خطورة هذه الظاهرة على أمن مصر.. هل سأل أحدنا نفسه: إذا كان آلاف الشبان يبيعون أجسادهم من أجل عدة مئات من الجنيهات، فهل يكثر عليهم بيع وطنهم بأى ثمن.. هل يصعب على من ينتزع أعضاء جسده بيديه ويمنحها ل«خليجى» أن ينتزع بقايا الانتماء من روحه، ويبيع «مصر» على قارعة الطريق.. لماذا لا يتحول إلى «جاسوس» أو عميل سهل، وقد تحول من قبل إلى «فاترينة» للأعضاء البشرية؟! أعرف أنها أسئلة صادمة وخطيرة.. وأعرف أيضاً أنها قد تغضب البعض، ولكن منطق الأمور قد يذهب بنا إلى أبعد من ذلك.. غير أن المشكلة الدائمة أننا اعتدنا أن نصحو على «الكوارث» بعد وقوعها.. ولا أحد فى مصر كلها يمكنه أن يقول «إن من يبيع جسده وروحه لأن بلده لم يمنحه فرصة التحقق والحياة، يصعب عليه أن يبيع نفس البلد»، لأنه قطعاً لن يكون أغلى من كليته.. فهل هى قضية «شوية عيال طماعين».. أم أنها «قضية أمن قومى» تحتاج مواجهة واقعية؟! [email protected]