رغم شرقيتها الطاغية منذ مئات السنين، التى منحتها طابعاً عربياً خالصاً ممزوجاً بلمسة غربية بدأت منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، ورغم أن غالبية سكانها يمضون ساعات نهارهم سعياً وراء لقمة العيش، لهم ولمن يعولون، وهو ما يفترض معه أن يكون ليلها هادئاً مستغرقاً فى النوم مع قاطنيها، إلا أن ليل القاهرة غير ذلك على الإطلاق، فهو وفى جميع أنحائها ومنذ سنين بعيدة، صاخب متعدد الأشكال والألوان، لا يهدأ ولا ينام إلا مع ساعات النهار الأولى التى يكون فيها صحو الكادحين. فى بدايات القرن العشرين كان ليل القاهرة مميزاً بالسهر فى مناطق بعينها، أشهرها شارع عماد الدين بوسط القاهرة، وصاحب الصيت الذائع فى المسرح والطرب والمغنى، هناك كان من الممكن أن تلتقى ب«كشكش بك» الشهير بنجيب الريحانى، أو تستمتع بأصوات السلطانة منيرة المهدية، وسيد درويش، ومن بعدهما الست أم كلثوم، إلا أن باقى القاهرة كانت تنام فى مواعيد أقصاها منتصف الليل، أما اليوم وحتى فى ليالى الشتاء قارصة البرودة، فإن القاهرة لا تنام أبداً. لنبدأ بالأحياء الراقية التى باتت تتميز بمقاهيها ذات الملامح الغربية، بعد أن غابت عنها، مقاهى الشرق التى تشتهر برائحة الشيشة، والمشروبات الشعبية المتوغلة فى عمق البيئة المصرية الصميمة، كالشاى بالنعناع، والعرقسوس، والخروب، والسوبيا، والزنجبيل. فمقاهى القاهرة الحديثة تتميز بتصميمات غربية بحتة، توحى لك بأجواء لا تمت لمصر العتيقة بصلة، بدءاً من المشروبات التى تتنوع بين العصائر الباردة، وأنواع القهوة الإيطالية وأشهرها «الإسبرسو»، و«الكابتشينو»، و«النسكافيه» ذى النكهات المتعددة، كما تقدم مجموعة من المأكولات المتنوعة من دول مختلفة. أما أهم ملامح تلك المقاهى، فهى أعداد الساهرين بها من جميع الأعمار الذين باتوا يجدون فيها مكاناً جيداً للسهر ولقاء الأصدقاء، بعد انتهاء دور العرض السينمائى من حفلاتها المسائية، كما باتت مكاناً للقاء الأسر أيضاً، لما تضمنه لروادها من خصوصية وخدمة جيدة حتى ساعات النهار الأولى. أما الشىء الطريف فهو لجوء بعض الأمهات لاصطحاب بناتهن لتلك المقاهى، للقاء بعض الصديقات ممن يبحثن لأبنائهن عن عرائس، لتصبح فرصة للعرض، والطلب للباحثين عن الزواج. دكتور سيد صبحى أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس، يرى أن تلك المقاهى تعد تطوراً لمطاعم «التيك أواى» الغربية التى عرفتها مصر مع بداية عصر الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات من القرن الماضى، التى بدأت، كما يقول، فى تغيير عادات الطعام لدى المصريين، وغيرت معها سلوكياتهم. ويضيف: «حتى الماضى القريب كان ليل الطبقة المتوسطة ينتهى عند منتصف الليل على أقصى تقدير، وتحت ظروف معينة. أما الآن ومع تغير عادات العمل ومواعيده، هجر المصريون المنازل، وباتوا لا يبدأون ليلهم إلا فى ساعة متأخرة، وهو ما يعنى انتهاءه أيضاً فى ساعة متأخرة، حتى الشباب صغير السن تجده جالساً فى تلك المقاهى فى مجموعات، تضم البنات والأولاد لوقت متأخر، كأننا فى أوروبا أو أمريكا، وكلما رأيتهم أتساءل أليس لهم أسر يسألون عنهم ويسألونهم أين ذهبوا ومن أين جاءوا؟». وإذا كان البعض ينظر لتلك الظاهرة على اعتبار أنها مظهر تحضر، فأنا أراها دليل كارثة، لأنه وحتى فى الدول الغربية التى توجد بها، لا يمكن أن ترى شباب أو أسر تسهر خارج المنازل لساعات متأخرة من الليل، كما يحدث فى ليل القاهرة، الذى يشعرك أن المصريين كلهم خارج منازلهم، السبب أن العمل فى الدول الغربية، يبدأ فى الساعات الأولى من الصباح الباكر مع الفجر أو بعده بقليل لكننا لا ننقل عنهم سوى السيئ. حديث الدكتور سيد صبحى يؤكده من زار العواصمالغربية التى يلف شوارعها السكون، مع الساعات الأولى للمساء، فتغلق أبواب غالبية محالها، لا تفتحها إلا مع ساعات الصباح الأولى، حين تبدأ حركة الحياة فى تلك العواصم بنزول ساكنيها لأعمالهم، وفتح المحال لأبوابها. أما القاهرة فإن تلألؤها يزداد فى الليل لتغطى أنوار بقعها المضيئة على أحزان الساكنين بها، فتبدو كعروس فى أحضان النيل تغرى الجميع بارتيادها. وبعيداً عن ليل ابنة المعز الراقى فى أحياء الأثرياء وتجمعاتهم، تسهر القاهرة أيضاً فى الأحياء الشعبية، سواء فى الشوارع والميادين الرئيسية بها، كالحسين، المكتظ بالمقاهى والمطاعم الشعبية، ومن أبرزها «الفيشاوى» و«الدهان» و«المالكى»، أو فى الحارات الضيقة، التى باتت تحتوى مطاعم يرتادها المشاهير من نجوم الفن والمجتمع لتناول الطعام بها. ومن أشهرها «الجحش» لجميع أطباق الفول والطعمية، و«أبو رامى» الذى يقدم أطباق الكباب والكفتة فى أجواء تتعجب معها من وجود المشاهير حولها، بدءاً من الموائد ذات الأغطية البلاستيكية الرخيصة، والأطباق المعدنية البسيطة، انتهاءً بأحواض غسيل اليد المسدودة ببقايا الطعام. ورغم ذلك يؤكد أصحاب تلك المحال أنها ملتقى المشاهير، لأنهم يوفرون لروادهم إلى جانب المذاق الجيد، الأجواء الشعبية التى يفتقدونها فى حياتهم. ملمح آخر من ملامح ليل القاهرة يتراءى لك فى بعض شوارعها المتفرقة، والمظلمة، فى غالبيتها، وعلى اختلاف مستويات القاطنين بها، فى الساعات المتأخرة من الليل، حيث تشاهد أشباحاً، يأتى بعضهم فى سياراتهم، يحصلون من البعض الآخر على ما يريدون من مخدرات، يأخذون كفايتهم وينصرفون، كما يحدث فى الشرابية والزمالك والوايلى، ورغم حملات الشرطة التى تجوب تلك الشوارع لضبط الأمن بها، فإن الموزعين والمستهلكين لتلك المواد المخدرة يعرفون كيفية تأمين أنفسهم، ليزوغون فى الوقت المناسب. وتستمر القاهرة فى صحوتها حتى أذان فجرها معلناً أن «الله أكبر»، لترى بعض المتمسكين بأداء الفرائض، وهم فى طريقهم لأداء الصلاة، داعين الله أن يزيد رزقهم، ويؤمنهم شر الطريق ومصاعب الحياة، كما ترى العائدين من سهراتهم وهم يستعدون لنفض آثار سهرتهم، فيغطوا فى نوم يعلم الله كيف يكون. حقاً هى بلد العجائب التى تجمع فى أحضانها الأشتات.