فى خضم الجدل الذى ثار فى الأسابيع الماضية بشأن الأزمة المالية العالمية، وكيفية التعامل معها، فإن الأمر الوحيد الذى لم يكن محل خلاف هو ما يمكن وصفه ب«عودة الدولة». الدولة التى بدت فى السنوات الأخيرة كما لو كانت قانعة بدور المشاهد أو حكم المباراة، عادت فى كل بلدان العالم كما يعود الملك المنفى، أو البطل الأسطورى، لتنقذ ما يمكن إنقاذه من البنوك، والشركات، والصناعات التى توشك على الإفلاس، بل والنظام المالى العالمى بأسره. فى أمريكا عادت الدولة فى طريق تأميم المؤسسات المالية المنهارة، وضخ مئات المليارات من الدولارات لمساندتها، وفى أوروبا عن طريق برامج طموحة لتشجيع الطلب وتنشيط الاقتصاد، وفى الصين من خلال مشاريع بنية تحتية عملاقة وبرنامج غير مسبوق لدعم الصادرات، وتكرر الأمر ذاته فى كل أنحاء العالم بدرجات وأشكال متفاوتة. ولكن إن كانت ظاهرة عودة الدولة ليست محلا للخلاف، فإن دلالاتها ومعانيها مما ينبغى التوقف عنده حتى لا نخرج من هذه التجربة بالدروس الخاطئة أو غير المناسبة. فبرغم ظهور الدولة بقوة فى الدول الصناعية المتقدمة، إلا أن الأساس الفكرى لمفهوم دور الدولة فى النشاط الاقتصادى فيها لم يتغير كثيرا لأنه كان تدخلا استثنائيا ومؤقتا، تمليه ظروف خاصة طارئة. ولكن النظرة الحاكمة لدور الدولة فى الاقتصاد لم تتغير إلا فى مجال الرقابة على الأسواق المالية وما يجب أن تكون عليه من إحكام شديد. ولكن فيما عدا ذلك، فإن التدخل الأخير للدول الصناعية الكبرى يعبر عن فارق كمى ومؤقت، وليس عن تغيير نوعى طويل المدى. فالدولة فى هذه الحالة ودورها ليسا محل خلاف، بل استقرا منذ فترة طويلة، وقبلهما الناس، وصارا من أسس المجتمعات الصناعية المتقدمة. وهناك توافق حقيقى فى هذه المجتمعات على دور الدولة، وعلى علاقتها بالفرد وبالعمل الفردى، وهذا التوافق هو أساس الاستقرار الاجتماعى فيها. ولكن إن كان هذا هو حال الدول الصناعية المتقدمة، فإن القضية فى باقى العالم مختلفة تماما. بل لعل الأزمة الحالية تكون قد كشفت الكثير مما يجب تصحيحه وإعادة النظر فيه بالنسبة لدور الدولة فى الاقتصادات الناشئة، ومنها مصر. وأول ما ينبغى إعادة النظر فيه هو الخلط الذى حدث لدينا بين فكرة خروج الدولة تدريجيا من النشاط الاقتصادى لكى تفسح الطريق أمام القطاع الخاص، وبين ما ترتب على ذلك من تقلص دورها فى إدارة المجتمع وفى تنظيمه، الأمر الذى جعل انتهاج سياسات الاقتصاد الحر يقترن – بلا سبب واضح – بمظاهر ضعف الدولة عموما وعزوفها عن التصدى لقضايا التنمية. ولكن فى ظل اقتصاد للسوق لا يزال ناشئا، ومع آليات غير مكتملة، وقواعد لم يتم صقلها، فإن النتيجة الحتمية هى وجود فراغ كبير فى متطلبات التنمية، لا القطاع الخاص قادر على أن يشغله، ولا الدولة راغبة فى التصدى له. هذا الفراغ هو ما يجعل النمو الاقتصادى ممكنا، ولكن دون أن يترتب عليه تنمية مجتمعية وبشرية. بمعنى آخر، فإن إنشاء اقتصاد حر يتطلب دولة قوية وفاعلة ومتدخلة، كما تؤكد كل تجارب النجاح المعروفة التى نهضت على أساس اقتصاد حر فى العقود الأخيرة، مثل ماليزيا، وسنغافورة، وكوريا، والمكسيك، وتركيا، وغيرها حيث ما كان يمكن لها أن تتقدم دون دولة قوية تقوم بدور إيجابى فى التنمية. مع ذلك فإن الإنصاف يقتضى التذكير بأن عودة الدولة فى مصر لم تبدأ فى أعقاب الأزمة الأخيرة، بل سبقتها بسنوات قليلة وبعد غياب طويل، إذ وجدت طريقها على سبيل المثال فى الاهتمام غير المسبوق مؤخرا بتنمية الصعيد بشكل ملموس وإيجابى وبمشاركة مؤسسات الدولة، وفى الرجوع للرقابة المصرفية الصارمة على المؤسسات المالية والبنوك بعد تسيب خطير، وفى العمل على إصدار تشريعات حديثة فى مختلف مجالات النشاط الاقتصادى، وفى إعادة تأهيل العديد من المؤسسات الرقابية المصرية خاصة فى المجال المالى والاقتصادي. ولكن مع ذلك يظل الاقتصاد المصرى والمجتمع يحتاجان إلى دولة أكثر تدخلا فى التنظيم، وفى دفع التنمية حيث الحاجة إليها أكبر، وفى حماية الفئات الضعيفة. هذا كله ليس مما يتعارض مع تشجيع الاقتصاد الحر، والقطاع الخاص، والاستثمار والتجارة، بل إن هذه هى شروط النجاح فيها. تدخل الدولة اليوم فى تنظيم الحصول على الأراضى ووضع نهاية للاستيلاء المستمر عليها، وتدخلها فى تنظيم الاستثمار الخاص فى التعليم والصحة بدلا من تركهما للمغامرين، وتدخلها فى تطبيق القانون بحسم وبسرعة، وفى الاستثمار فى تنمية الصعيد وغيره من المناطق المحرومة، كل هذا ليس رجوعا للاقتصاد المخطط مركزيا، وإنما الضمان الوحيد لنجاح الشراكة بين العام والخاص فى تحقيق التنمية المنشودة.