كل عام وأنتم بصحة وعافية، كل عام وأنتم فى سلام، كل عام وأنتم ناجيين من التهلكة، التى تطاردكم أينما كنتم، طالما تعيشون فى أرض المحروسة، فالنجاة من المصير المفزع الساكن فى القطارات والسفن وعلى الطرق المرصوفة بالفساد والضمائر الميتة (لا تخلو صحيفة يومية من خبر عن الذين ابتلعهم الأسفلت). الموت يختبئ تحت البنايات الفقيرة وفى الكومباوندات الثرية المحاطة بحراس وأسوار عالية. الموت يختبئ فى حبات المكرونة واللوبيا (حادثان منفصلان نشرا فى صفحة واحدة بصحيفة «المصرى اليوم»، الأول فى منطقة أم بيومى بشبرا الخيمة، حيث لقى أربعة أشخاص من أسرة واحدة مصرعهم بعد تناولهم وجبة مكرونة فاسدة، الثانى فى الدقهلية حيث لقى ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة مصرعهم بعد تناولهم وجبة لوبيا فاسدة)، وهكذا نعيش بين سحابة سوداء وأنفلونزا طيور ومبيدات مسرطنة وأطعمة فاسدة، وأطباء يتاجرون فى أجساد البشر، يبيعون أكبادهم وكلاويهم ودماءهم، ومستشفيات الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، فقد دخل طفل صغير أحد المستشفيات الاستثمارية بذراع مكسور وخرج جثة هامدة، رغم أن الكسورة كانت فى الماضى تعالج على أيدى المجبراتية (طائفة كانت أمهر من الأطباء فى علاج الكسور) وكان العلاج ناجحاً والشفاء تاماً. لا نكاد نفيق من كابوس مثل بيع لحوم الحمير والكلاب والدواب النافقة حتى نجد أنفسنا أمام جريمة استيراد قمح لا يصلح إلا كعلف للحيوانات، وكأننا لا نختلف كثيرا عن الحيوانات، وتحديداً الحيوانات المفترسة التى تأكل الجيف ولا تفرق بين لحم حمار أو لحم غزال، فهل هذه حياة وهل تلك هى مصر التى نتغنى بأمجادها ونرفل فى نعيم ماضيها السحيق، وهل هكذا يتعلم الناس حب الوطن؟ نحن أمام محاولات دؤوبة ومنظمة لقتل هذا الشعب الصابر عند المحن، الراضخ عند الشدائد، محاولات تهدف لإغراقه فى المصائب والمحن حتى لا يلتفت إلى أبعد من قدميه، يأخذونه من أزمة فى مياه الشرب إلى شح فى رغيف الخبز، يكبلونه بالهموم ويشغلونه بتوافه الأمور، كى لا يرفع رأسه ويرى فداحة الجرم الذى يرتكب فى حقه، ثم يتركونه للهواجس والعلل. كل عام وأنتم بخير وأرجو أن تسامحونى لأن تهنئتى بالعيد لم تكن كما ينبغى. ربما لأننى أكتب من قلب الصعيد، حيث الفقر يتمدد بطول الوادى والبؤس كحل العيون والغضب غذاء القلوب، وحيث الناس تتوادد وتتراحم وتتواعد على الصبر والتواصل فى الضراء، لا تعنيهم صكوك محمود محيى الدين ولا قرارات يوسف بطرس غالى، ولا يشغلهم صراع السلطة فى الدولة المريضة. الصعيد هو العنوان الأسهل والصورة الأوقع والمثال الحى لحال مصر، ليس لأنه كما قال البنك الدولى قبل أيام (إن الصعيد سجل أعلى معدلات الفقر والحرمان فى مصر بنسبة بلغت سبعة أضعاف المناطق الأخرى فى مصر)، ولكن لأن من يسمع غير من يرى، فالفقر يمكن أن يتجاوز تلك المعدلات التى رصدتها وحدة الدراسات بالبنك الدولى. لذلك أجدنى مختلفا مع الروائى المتفرد جمال الغيطانى فى رؤيته عن أن الصعيد ليس أفقر مناطق مصر وإن كنت اتفق معه فى غضبه من الإعلان المهين عن التبرع بأثمان الأضاحى لتوجيهها لأهل الصعيد وأتفق معه أيضا فى حب أهل الصعيد لأكل اللحوم. لكننى على يقين أن السواد الأعظم من الناس لا يأكلون اللحوم لمدة شهور. وهنا أختلف أيضاً مع الكاتب والسيناريست المدهش بلال فضل فى إشارته إلى أن الصعيدى لابد أن يأكل اللحم مرة على الأقل أسبوعيا مهما كان فقيرا، فالذين يأكلون اللحم أسبوعيا أو حتى شهريا من المحظوظين المتنعمين. صحيح أن الكل يأكل لحما فى العيد، لكن الغالبية تناله من المضحين فى إطار تواد أهل الصعيد. ويبدو أن الغيطانى، نسى فى مقاله أنه يكتب عن أفقر محافظة فى مصر، وأكثرها تخلفا وبطالة وأن حالها يسوء من محافظ إلى آخر بمن فيهم المحافظ الذى اعتبره الغيطانى مثقفاً. فليس بالكرنفالات والاستعراضات تكون التنمية، وليس بالاحتفالات تحفظ كرامة الناس وتوفر له سبل العيش الكريم. ويبدو أن المبدع الكبير اعتبر زيارته العابرة للصعيد كزياراته العميقة للقاهرة الفاطمية، إذ توقفت كثيرا أمام ما كتب، خصوصا قوله إن أهل الصعيد كانوا يلقون بأحشاء البهيمة بعد ذبحها فى الزبالة، ناسيا أن أكل الكبد والكلاوى والقلوب غية عند الصعايدة فور شق بطن الذبيحة، وقبل أن يكتمل تقطيعها وأن الكرشة تترك للجزار أو تمنح لأحد الفقراء، لأنها تحتاج إلى مجهود كبير فى التنظيف، والنساء فى تلك الدور عندهن ما يشغلهن أكثر من الانكباب على تحضير وجبة فى ساعات.