الآن فقط عرفنا السر وراء إصرار النظام على الإبقاء فى الدستور على نسبة الخمسين فى المائة للعمال والفلاحين فى جميع المجالس النيابية والمحلية، رغم التعديلات التى أدخلها وألغى بها قيادة القطاع العام للاقتصاد، وعرفنا السر وراء التصريح المذهل الذى أدلى به رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف، وهو وسط عمال شركة المحلة بأن حكومته ليست حكومة رجال أعمال، إنما حكومة عمال، فأخيراً كشف النظام عن حقيقته التى ظل يخفيها وهو أنه يميل للشيوعية، ويريد استلهام أفكار بعض أنظمتها فى إدارة مصانع القطاع العام وتمليكها للشعب، بعد أن خرجت الحكومة وحزبها فجأة بحكاية صكوك ملكية لبعض المصانع وتوزيعها على واحد وأربعين مليون مصرى من سن واحد وعشرين فما فوق، وقالت الحكومة والحزب إنها بدأت تفكر فى هذا المشروع منذ سنتين، ودرست تجارب عدد من دول الكتلة الشيوعية السابقة، مع إدخال تعديلات لتضمن تلافى الأخطاء التى وقعت فيها هذه الدول، خاصة استحواذ مجموعة من الاحتكاريين على الأسهم الموزعة بشرائها من أصحابها، وأدت ردود الأفعال العنيفة على هذا الإعلان، واتهام النظام بأنه يريد أن يعطى ورقة لجمال مبارك ليكسب بها شعبية فى سعيه لتولى الرئاسة، وأنها خطوة فى طريق بيع كل شىء فى مصر - أدت إلى تحمل وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين عبء الرد والشرح والتوضيح.. ونفى كل المخاوف التى أثارها المعارضون، وفى الحقيقة فإنه مع كل توضيح إضافى سواء من محيى الدين أو غيره من المسؤولين يزداد الغموض فى موقف النظام، بل الشكوك فيه، والذى يهمنا هنا عدد من الملاحظات الرئيسية: 1- إن الوزير أكد أن الصكوك سيتم التعامل فيها فى البورصة، وبالتالى سيصبح من حق المتعاملين فيها من المصريين والأجانب شراؤها، وبما أن الحاصلين على الصكوك سوف يبيعونها بالتأكيد لأنه لا قيمة لها بالنسبة لهم، فهى لا تحقق لهم دخلاً شهرياً إضافياً له قيمة يساعدهم فى مواجهة متطلبات الحياة أو دفع مصروفات مدارس أو الدخول فى جمعيات أو دفع قسط ثلاجة أو بوتاجاز أو فاتورة الكهرباء، فما هى الفائدة السنوية التى تحققها أسهم قيمتها حوالى أربعمائة جنيه، أو حتى أكثر، هذا إن كان لها أرباح أصلاً، ولم تحقق الشركات خسارة، وبالتالى فالتخلص منها أفيد، أى أنها ستقع حتماً فى أيدى الأجانب والمحتكرين مهما ادعت الحكومة أنها ستضع من القيود ما يمنع هذا الاحتمال، والذى يعزز هذا الشك أنه تم استبعاد عدد من الشركات والمؤسسات والمرافق من هذه العمليات، وهى التى اعتبرها النظام استراتيجية تتصل بالأمن القومى للبلاد وتحقق أرباحاً، وهذه كلها كانت الحكومة تقاتل لبيعها، لكن جهة سيادية قوية وأجهزة الأمن نجحت فى منع مجموعة البيع داخل الحزب والوزارة من تنفيذ مخططها، ولهذا فإن المشروعات التى سيتم تمليكها للواحد والأربعين مليوناً هى التى كان مقرراً بيعها، أى أننا أمام أسلوب آخر فى البيع، خاصة أنه تم الإعلان عن وقف برنامج الخصخصة وليس إلغاءه، أى أنه سيتم استئنافه ولكن بأسلوب مختلف. 2- والشكوك فى النظام لها أسبابها الحقيقية، فعندما يدعى بعض المسؤولين أن التفكير فى التجربة بدأ منذ عامين، فقد كشفهم وزير قطاع الأعمال الأسبق فى وزارة الدكتور عاطف عبيد، التى تم تغييرها بوزارة نظيف عام 2004، وهو الدكتور مختار خطاب، فى تحقيق نشرته جريدة «الدستور» يوم الأربعاء الموافق 12 نوفمبر، أعده زميلانا عبادة على وصفية حمدى، قال فيه بالنص: «إن فكرة توزيع حصص من المال العام على المواطنين سبق وتطرقنا إليها فى بداية عملية الخصخصة، بل وناقشناها باستفاضة بتكليف رئاسى مع الجانب الروسى الذى كان خارجاً لتوه من تجربة مماثلة فى عهد الرئيس يلتسين، إلا أن الروس أنفسهم نصحونا بالتراجع عن مجرد التفكير فى خوض التجربة والعمل ببرنامج مشابه، لأنه فشل عندهم تماماً، من هنا فقد أغلقنا النقاش حول تطبيق مشاركة الأصول مع المواطنين، وانتهى الأمر إلى حين خروجى من الوزارة فى عام 2004 دون أن يقدم أحد داخل الحكومة على طرح الفكرة مرة ثانية». أى أنها ليست من بنات أفكار أمانة السياسات، ولا هى حب فى الناس، فإذا كانت حكومة الدكتور عاطف عبيد، التى توسعت فى الخصخصة وتخسير مصانع القطاع العام حتى تجد المبرر لبيعها، ولم يكن من بين وزرائها رجال أعمال، كان هذا هو موقفها، فلنا أن نتخيل الهدف الحقيقى من إعادة طرح المشروع من هذه الحكومة، التى وهى تبحثه باعت شركة بيكربونات الصوديوم بالإسكندرية، وهى تحقق ربحاً قدره عشرون مليون جنيه وتتمتع بوضع شبه احتكارى، باعته لشركة سولفاى البلجيكية بدلاً من الاحتفاظ بها وإدخالها ضمن الشركات التى ستوزع صكوكها. 3- كيف يمكن الثقة فى نوايا الحكومة ومصداقيتها، وهى التى أعطت الأربعمائة ألف فدان فى توشكى لمستثمرين عرب ومصريين، وحرمت منها الواحد وأربعين مليوناً من الذين ستوزع عليهم صكوكها؟ فمن أولى بالأرض؟ نحن أم الأمير الوليد بن طلال والراجحى وكبار رجال أعمال النظام؟! ومن أولى كذلك بحوالى نصف مليون فدان فى محافظة شمال سيناء، مستحقو الصكوك أم رجال أعمال ومستثمرو النظام الذين سيأخذونها فى المزادات العلنية التى أعلن وزير الزراعة عنها؟! 4- وأخيراً.. قابلت ثلاثة مسؤولين كبار جداً فى الحزب الوطنى الحاكم أكد كل واحد منهم أنه فوجئ بالإعلان عن المشروع، وعبر عن دهشته واستنكاره له، ولا تعليق بعد ذلك، وإنما نعيد التساؤل الذى طرحناه مراراً، وهو: ما الذى يحدث بالضبط فى هذا البلد؟!