حزنت لوفاة الأستاذ صلاح الدين حافظ.. ليس فقط بسبب غياب أحد أساتذتى فى مهنة الصحافة، ولكن لأن إعلان وفاته -بالنسبة لى- جاء إعلاناً لهزيمة كفاح رجل من أجل حرية الصحافة وحق الإنسان فى المعرفة والحفاظ على قيم المهنة.. قضايا كرس لها حياته وأدواته. قيم الأستاذ صلاح ومبادئه التى آمن بها وجعلت منه نموذجاً تتبدى فى أعماله وأفعاله ومعاملاته.. شخصياً أحب حديث الوقائع لأنها تقدم دروساً وعبراً.. والتالى غيضاً من فيض. التقيت الأستاذ صلاح لأول مرة قبل نهاية عام 1985 بعدما عاد من الخارج ليتولى مسؤولية تحرير «الأهرام الدولى» (الطبعة الدولية من الأهرام) حيث بدأ على الفور البحث عن عناصر شابة تتعاون معه.. بعد التعارف تحدث عن أحوال المنطقة العربية، وتحدثت بإسهاب عنها وعن منظمة التحرير الفلسطينية ومستقبل حركة فتح وغيرها من القضايا.. وفى نهاية اللقاء قال: أود أن تشارك معنا (لاحظ تشارك).. أفكر فى إحياء قسم للشؤون العربية والفلسطينية وصفحة أسبوعية بعنوان «تيارات عربية» بالأهرام الدولى بعد تلاشيها من الأهرام منذ المقاطعة العربية لمصر، إثر زيارة السادات للقدس عام 1977.. الصفحة تحت إشرافى وستتولى أنت تزويدها بالمادة.. وقد كان. فقد كان الأستاذ صلاح الدين حافظ يحترم المهنة ويطبق معايير مهنية وينقب عن العناصر الشابة ويعطى فرصة. فى فبراير 1988 أبلغته بأن الزعيم الفلسطينى أبوجهاد فى القاهرة وأن الصديق الطيب عبدالرحيم (أبوالعبد) ممثل المنظمة فى مصر قد رتب مقابلة لنا معه. وتمت المقابلة واستغرقت نحو ساعتين، وفى طريق العودة ل«الأهرام» طلب منى أحد شريطى الكاسيت، وقال: أجرينا الحوار معاً.. وكل واحد يتولى نصيبه، ويقوم بتفريغ شريط.. وفى اليوم التالى سلمته الجزء الخاص به، وفى اليوم الثالث (26 فبراير) فوجئت بالمقابلة منشورة بالأهرام وبالطبعة الدولية واسمى إلى جوار اسمه بنفس البنط حسبما طلب وأصر على طلبه. ولمعرفة الفارق بين الأساتذة والأدعياء، ففى سبتمبر 1993 -بعد انتقالى للقسم الدبلوماسى بالأهرام- انشغل العالم بأنباء عن مفاوضات سرية بين المنظمة وإسرائيل، وعلمت من السياسى الفلسطينى الدكتور نبيل شعث أنها تجرى فى أوسلو، وذهبت لإجراء حديث معه حضره شخص ثالث بعد إلحاح منه.. وقمت بإعداد الحديث للنشر.. ووجدته فى اليوم التالى منشوراً باسم هذا الشخص.. وعندما وبخته على ذلك فوجئت بأغرب ما يمكن قوله فى مهنة الصحافة.. قال: «إنت عملت الموضوع.. وأنا أحدد اسم من ينشر عليه»؟! إثر هذه الواقعة تقدمت بطلب إجازة دون راتب حيث تلقيت عرضاً للعمل بجريدة «الحياة» اللندنية من مدير مكتبها بالقاهرة الدكتور عمرو عبدالسميع.. وهو أستاذ آخر، ولى معه تجربة عمل رائعة تستحق أن تروى.. والخلاصة أن الأساتذة أمثال صلاح الدين حافظ وعمرو عبدالسميع إن وجدت موهبة غرستها فى الأرض وروتها على عكس عناصر الطرد التى تملأ أروقة المهنة من قتلة المهنة وشبابها، الذين يجسدون هزيمة جيل من أصحاب الخبرات والكفاءات أصابهم اليأس والإحباط. فى أول يناير 1989 أعددت صفحة بمناسبة الذكرى ال 34 لانطلاق حركة فتح تتناول أوضاع القضية الفلسطينية، وطلبت من الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يوجه كلمة فى هذه المناسبة، فاختار عرفات أن يوجه الكلمة عبر رسالة إلى صلاح الدين حافظ تقديراً للرجل، الذى احتضن الصوت الفلسطينى فى فترة القطيعة مع مصر عبر «الأهرام الدولى». كان رحمه الله إنساناً وفياً لكل من يعمل معه.. ذات يوم سألنى: هل اتصلت بفلان؟.. قلت: من هذا؟.. قال: ألا تعرفه.. إنه زميلنا (لاحظ زميلنا) الساعى.. وأردف: إنه مريض اسأل عليه! خلال فترة مرض الأستاذ صلاح بالسرطان اتصلت به للاطمئنان عليه فإذا به يتحدث معى عن موضوع مقاله.. وخططه ومشاريعه القادمة، وفكرة ومحتوى كتابه القادم، فقد كان رحمه الله يثق فى الله ثقة مطلقة، ويتمتع بقوة إرادة مثالية. سألته يوماً: ألا تلعن الظروف التى لم تجعل مثلك رئيساً للتحرير؟.. أجاب بابتسامة رضا: طبعاً لا.. الصحافة مهنة ورسالة.. ورئاسة التحرير فى الصحف القومية وظيفة.. كل إنسان يختار طريقه.. وأنا اخترت طريقاً أعلم أنه لا يؤدى إلى رئاسة تحرير صحيفة قومية.. وأنا راض بذلك تمام الرضا. طريق صلاح الدين حافظ طريق العمل من أجل حرية الصحافة وحق الإنسان فى المعرفة، وحرية إصدار الصحف وتخليص المهنة من القيود، وتطبيق معايير موضوعية ومهنية ونقابة حقيقية وقوية للصحفيين.. وهى قضايا كرس لها حياته المهنية ومقالاته ومؤلفاته ومشاركاته فى المؤتمرات الدولية والمحلية. بعد سنوات طويلة من الكفاح.. فلا حرية صحافة كاملة حصلنا عليها.. ولا حق القارئ فى المعلومات تحقق.. ولا معايير مهنية تطبق.. ولا نقابة قوية للصحفيين موجودة. فى حيثيات منح النقابة جائزتها التقديرية السنوية لصلاح الدين حافظ.. «إنه كرس جهده وقلمه على مدى سنوات للدفاع عن الحريات والتطور الديمقراطى فى مصر»، وأضيف من عندى.. بلا جدوى سوى احترام هذا الرجل وإصراره.. فتلك الباقة من رموز التخلف، التى تحيط بنا من كل جانب تجسد تلك الهزيمة. قرأت الفاتحة على روحه ودعوت له بالرحمة، وبأن يكون مثواه الجنة بإذن الله.. ولم أذهب إلى عزاء أستاذى متعمداً حتى لا أرى وجوه من يجسدون هزيمة كفاحه وهم يتلقون فيه العزاء! [email protected]