تأتى ذكراك السادسة والثلاثون، فيأكل الحقد قلوبهم ويتساءلون: ألم يزحف النسيان على عقولهم، فينسون؟ أبداً... حينما حامت الغربان فى سماء الغناء وانتشر نقيق الضفادع فى حقول الطرب، افتقدتك يا صاحب أرق نغمة عربية.. واراها التراب مبكراً. شىء ما يلمع فى عيون جيلى أشبه بالدموع ربما كانت فضلات العمر تنسكب من الأحداق وأنت راقد فى قبر رخامى يحمل اسمك بعد أن انتقلت من دنيانا. ومازال الحنين لزمانك وروائحه فى الأذن المصرية، تجنى ذكراك، فتشرئب العين لطلعتك وتهيم أذنى لتسمعك، وتسعد الروح لأنغامك، فأنت شريك الفرح والمرح، غنيت أفراحنا، وزرعت البهجة فى قلوبنا وغنيت انكساراتنا فزرعت الأسى فى صدورنا وذهبت، وتركت لنا أشباح الوحشة. طال غيابك يا عندليب، يا جوزائى البرج والمزاج.. تجىء ذكراك فى مطلع الربيع، فتنكس الزهور أوراقها حزناً وتنتصب أشجار الصبار مرارة، وتكف الفراشات عن التحليق. جفت أغصان الغناء، فالسيد كف عن الشدو. اختزلوك يا ولدى فى حكايات غرام، وهل تزوج العندليب من السندريلا؟ كأنه ليس من حقك أن يرفرف قلبك بالحب، وتتزوج من محبوبتك بعيداً عن العيون. اتهموك يا ولدى بأنك تتمارض ولو رأوا صدرك المثقوب بآلاف الإبر لخجلوا وداروا دموعهم. كان من الممكن شفاؤك بدواء معين لكنه سيفقدك ذاكرتك، ورفضت لتمتع الناس بصوتك ولو على مذبح الألم الذى قال يا عندليب يوم رحلت «قيثارتى مُنيت» لم يكذب.. لقد كان يلخص حالتنا. طاردوك بالقيل والقال وأمطروك بالشائعات فى ربيع أيامك وذهبت ولعلهم نادمون.. لا تحزن، فنحن شعوب لا تفتقد الآخر إلا فى غيابه، وطال غيابك يا عندليب. تأتى ذكراك فى وقت نحن فيه عطشى لشدوك لتعيد للقلوب بكارتها وتمسح من الأذن ركاكة ألفتها.. ما أجمل لحظة دخولك إلى المسرح لتغنى وتطبق الأجفان على رسمك وتنتشى القلوب بمقدمك وتلتهب الأكف لغنائك. إن هوية الغناء تاهت فى الزحام، فلم يبق من عطر الأمس إلا نجاة واحتجبت وشادية وتحجبت. ومازالت الإذاعة تذيع حفلاتك بعد منتصف الليل ولا تزال قنوات عربية نراك فيها فاكهة كل أوان وزمان. زمان الفن الآن مضطرب يا عندليب فاللوحة حرام والغناء حرام والتمثيل حرام والمسرح حرام والموسيقى حرام. هذا زمن «الحياة الحرام». وأنت الذى شدوت بأغنية «المسيح» يوم كان الدين المعاملة. أتذكر الآن أيقونتك المغناة مع الأبنودى المنقوع فى التربة المصرية «عدى النهار»، وسكبتها فى الأذن بعد النكسة. هل أستدعيها الآن لأن «بلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جالها نهار يدفع مهرها». عزاؤنا أننا نسمعك فى شرائطك المسجلة ونتذكرك ونتخيلك ونحبك أكثر. مازالوا يتساءلون: لماذا نحبك؟ لأنك كنت تغنى للوطن.. للأرض، للعرض.. للطفلة بجدايل.. للمصرى حافظ القرآن.. لأنك كنت شريك كل قصة حب.. يوم التقينا هاهنا يوم مغرور حبيبى.. يوم تخونوه.. يوم بلاش العتاب.. يوم يا قلب خبى.. يوم موعود بالعذاب.. طال غيابك عنا يا عندليب يا عبدالحليم يا عُبد يا حليمو، ياليمو، يا من صورت لنا الدنيا كقصيدة شعر، فإذا بها الآن والآن فقط - نثر ركيك.. إنا نغرق، نغرق، نغرق.