عندما تقوم الحكومة المصرية بمنع التظاهر من أجل الاحتجاج على عدوان إسرائيل على المسجد الأقصى، ومنع حتى الوقفات الاحتجاجية على ذلك، فبماذا نفسر هذا التصرف؟.. البعض قد يتهم الحكومة المصرية بالخيانة للقضية الفلسطينية والعمالة لإسرائيل، ومع أن ظروف الحكومة وخضوعها فى الكبيرة والصغيرة لأمريكا وربيبتها إسرائيل قد تجعل هذا التفسير غير مستبعد، إلا أن التفسير المقبول أكثر فى نظرى هو أن التظاهر والوقفات الاحتجاجية والاعتصامات هى ثقافة وسلوك إذا ما اعتاد الشعب عليها فإنه يمارسها فى كل أمر يستدعى ذلك، كما تفعل كل الشعوب الحرة المتحضرة، وهذا أمر لا تستطيع الحكومات المستبدة تحمله وتستميت فى مقاومته، ومن أجل ذلك فإن الحكومة المصرية تتصدى لأى تظاهر مهما كانت أسبابه داخلية أو خارجية، إلا إذا كانت مؤيدة للحكومة فى أمر تشعر أنها محتاجة دولياً لتأييدها فيه، وهى فى تصديها له، إنما تنبعث من رغبة داخلية فى عدم تعويد الشعب على التظاهر حتى لا يصبح الأمر معتاداً بالنسبة له، يقوم به كلما دعت إليه ضرورة وطنية، هذا هو التفسير المقبول لدىَّ فى منع الحكومة لأى مظاهرة، ولو كانت ضد أمر خارجى وضد حكومة أخرى مثل الحكومة الإسرائيلية أو الأمريكية أو حتى تأييد لإخوة لنا نريد أن نشعرهم أنهم ليسوا وحدهم فى كفاحهم من أجل الحفاظ على المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، الذى لا يقتصر حق الدفاع عنه على الفلسطينيين وحدهم، بل يهم مسلمى ومسيحيى العالم كله، لأنه إذا صدق القول بأن مشكلة الدفاع عن المسجد الأقصى تخص الفلسطينيين وحدهم أمكن القول بأن مشكلة التعدى على الكعبة فى مكة والمسجد الحرام تخص المملكة العربية السعودية وحدها دون مسلمى العالم لوجود الكعبة والمسجد الحرام فيها، من أجل ذلك يجب أن يهب العالم الإسلامى والمسيحى جميعاً من أجل الدفاع عن هذا المسجد ومنع الإسرائيليين من التعدى عليه، وتحويله إلى هيكل لهم وحدهم دون بقية الأديان، حالة أن وجوده فى يد المسلمين لعدة قرون جعله قبلة لجميع الأديان السماوية، وإنى لأعجب أشد العجب أن يكون الناس فى تركيا أكثر غيرة على هذه المحرمات من غيرها من البلاد العربية، والحقيقة أن الشعوب العربية لا تقل غيرة من الشعب التركى على هذه الحرمات، ولكن الإيمان بالديمقراطية، ومنها حق الشعب فى التظاهر السلمى للتعبير عن الإرادة، معترف به تماماً فى تركيا، وغير معترف به مطلقاً فى بلادنا العربية، ومنها مصر بالطبع. ألغت تركيا مؤخراً اشتراك إسرائيل فى مناورة حربية كانت ستشترك فيها بعض الدول، وقالت تركيا فى تبرير هذا التصرف إن الشعب التركى لا يستطيع رؤية الطائرات التى كانت تضرب غزة تحلق فى سماء بلادهم، ترى لو أن هذه المناورة كانت مقررة بين مصر وإسرائيل، هل كانت مصر قادرة على اتخاذ هذا القرار أم أنها كانت ستتذرع بأن هناك اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل تمنعها من اتخاذ مثل هذا القرار، كما تتذرع الآن بهذه الاتفاقية لإمداد إسرائيل بشريان الحياة «الغاز الطبيعى» لكى تعيش وتستقوى وتواصل عدوانها على الشعب العربى كله، لقد علل رجب طيب أردوغان قرار حكومته إلغاء اشتراك إسرائيل فى المناورة بأنه لا يستطيع الوقوف ضد إرادة شعبه، وهو لم يكن ليقول ذلك لولا أنه يعرف جيداً أن الشعب هو الذى أتى به إلى السلطة، وهو وحده القادر على أن يزيحه منها، أما حكامنا فلأنهم أتوا إلى السلطة عن طريق وزراء الداخلية ودون إرادة شعبية فى انتخابات شكلية يقوم وزراء الداخلية فيها بدور الشعب فى اختيار هؤلاء الحكام، فإنهم لا يعملون حساباً لشعوبهم التى لا حول لها ولا قوة فى اختيارهم أو عزلهم. مقولة رجب طيب أردوغان بأنه لا يستطيع أن يقف ضد رغبات شعبه تتناقض تماماً مع ما يقوله حكامنا بأن الحكومة لا يمكن لى ذراعها، وتثبت أن هذه المقولة غير صحيحة، فكيف لا يمكن إجبار الحكومة على تصرف يريده الشعب وهى إنما تحكم باسمه ووكيلة عنه فى إدارة شؤون البلاد، وكيف لا يمكن للموكل أن يعزل وكيله فى أى وقت، خاصة إذا ما خالف الشروط التى وضعها لاختياره؟ إن الشعوب أقوى من الحكومات لأنها هى التى تأتى بها بإرادتها الحرة، الحكومات هى خادمة للشعوب، تتقاضى راتبها من أمواله، وتعمل لحسابه ووفق مصلحته، وغير ذلك أمر غير طبيعى يجب أن يتغير وهكذا كل الشعوب الحرة تعمل لها حكوماتها ألف حساب، أما الشعوب المقهورة فهى التى وضعت القيد فى يدها واستسلمت لجلاديها يفعلون بها ما يشاءون دون خوف من حساب أو وجل من عقاب حتى شاعت بيننا أمثلة تدل على التخاذل والذلة وأصبح الحكام يتفاخرون بأنه لا يمكن أن يجبرهم أحد على تصرف لا يريدونه ولو كان فى مصلحة الشعب. فى إحدى الزيارات لتركيا شاهدت مظاهرة من أجل الانتفاضة الفلسطينية بدأت بالعشرات من شارع الاستقلال وهو شارع تجارى شهير فى إسطنبول، وعندما وصلت المظاهرة إلى نهايته كان بها عدد لم أستطع إحصاءه، المهم فى الأمر أنى لم أجد شرطياً واحداً بالملابس الرسمية يقترب منها، ولم يكن هناك أى مظهر يدل على ضيق الحكومة منها، لأن هذا حق الناس فى أن تعبر عن رأيها فيما ترى ضرورة التعبير عنه ما دام لا يوجد تعد على أحد أو إخلال بالنظام والأمن أو الممتلكات العامة أو الخاصة. التظاهر حق تبيحه جميع الحكومات الديمقراطية، وتعرفه جميع الشعوب الحرة وتقره جميع المواثيق الدولية، ولا يوجد منع له إلا فى البلاد المستبدة التى تخاف من أى مظهر شعبى يجمع الناس، لأن لديها إحساساً بأن هذا المظهر يمكن أن ينقلب عليها، وهى ترى أنه إذا كان الآن ليس من أجل الاحتجاج على تصرفاتها فإنه سيكون غداً كذلك، ونظراً لأنها تعلم أن تصرفاتها ليست فى مصلحة الشعب ولا تراعى فيها رغبته فإنها تخشى التظاهر والاحتجاج على ذلك. عندما عزمت أمريكا على شن حربها على العراق أجرت اتصالات مع تركيا لكى تسمح لها باستخدام قواعد حلف الأطلنطى الموجودة بها، باعتبارها أحد بلدان هذا الحلف فى ضرب العراق مقابل مبلغ كبير، عدة مليارات من الدولارات كانت تركيا فى هذا الوقت فى أشد الحاجة إليه، حيث كانت الأزمة المالية التركية فى أشد حالاتها، وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً قد ورث تركة اقتصادية منهارة واقتصاداً فى الحضيض، ورغم ذلك رفض البرلمان التركى هذا العرض المغرى حفاظاً على دم المسلمين، وطبقت بذلك الحكومة التركية الحالية مبدأ تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها أو بدم أخواتها المسلمين، أما فى مصر فإن البوارج الأمريكية كانت تعبر قناة السويس متجهة لضرب إخوتنا فى العراق دون أن تحرك الحكومة ساكناً، بحجة أن هناك اتفاقية تنص على حرية الملاحة فى القناة تلزم مصر ولا تستطيع الخروج عليها، ونسيت الحكومة أو تناست أن هناك اتفاقية دفاع مشترك بين الحكومات العربية تحتم على كل دولة أن تدافع عن الأخرى فى حدود تعرضها للعدوان، وهذه الاتفاقية توجب عليها الدفاع عن العراق الشقيقة فى حالة العدوان عليها، وهذا يوجب على مصر منع القطع الحربية المتجهة إلى أى بلد عربى للعدوان عليه من المرور فى قناة السويس أو عبر أجوائها، هل تعرف يا أخى لماذا منعت تركيا استخدام قواعدها فى العدوان على العراق وسمحت مصر باستخدام أرضها ومياهها فى هذا العدوان، رغم غضب وحزن الشعب المصرى؟ السبب بالطبع أن الحكومة التركية تتحرك وفق نبض الشعب التركى، الذى لا يرضى أن تستعمل أراضيه فى ضرب إخوته فى الدين، أما الحكومة المصرية فتعرف أنها تتحكم، كما تريد، فى نبض الشارع المصرى، توجهه كيف تشاء عن طريق انتخابات تعرف نتيجتها قبل إجرائها، بل يعرفها العالم أجمع. دخول تركيا ليس أمراً صعباً، ولذلك فإنى أقترح على كل مصرى حر يريد أن يعبر عن رأيه فى حرية دون التعرض للأذى أن يتوجه إلى تركيا، حيث حرية الرأى مكفولة وأن نقوم بالتظاهر فى تركيا من أجل مصر حتى يفك الله قيودها، كان مصطفى كمال أتاتورك ديكتاتوراً بمعنى الكلمة ، وكنا نحن كبار السن نكرهه كثيراً، لأنه قضى على الخلافة الإسلامية، وقد ورثت هذه الكراهية من والدى، رحمه الله، حيث كان مثل الكثير من أبناء جيله يرون فى الخلافة العثمانية رغم ضعفها الأمل فى تجميع المسلمين، ولكن مصطفى كمال أتاتورك رغم ديكتاتوريته لم يعلّم حكومته تزوير إرادة الشعب، ولذلك ما إن تعثرت تركيا من بعده حتى نهضت عن طريق اختيار حكومة قوية ومجلس تشريعى يمارس سلطته، وها هى الآن تخطو خطوات سريعة نحو التقدم والرقى، أما نحن فإن الأمل فى التقدم ضعيف، وكل ما نرجوه أن نتخلص من هذا الداء اللعين، تزوير الانتخابات، حتى نستعيد إرادتنا فى اختيار حكامنا، وأن نتظاهر فى بلدنا بدلاً من أن نذهب إلى تركيا لكى نتظاهر فيها.