يقضى الناس فى المجتمعات الديكتاتورية معظم وقتهم فى اجتماعات، وفى مجتمع رومانيا الخاضع لرقابة غير عادية تظهر فى تلك الاجتماعات وبوضوح كيف أن جميعهم يتكلم بطريقة واحدة، وغالبا ما نجد نفس الطريقة فى معظم البلاد الديكتاتورية وليس فقط فى رومانيا. فكل حركة فردية، كل نفحة شخصية، كل ارتعاشة لإصبع من أصابع اليد، كل هذا يختفى تماما من حركات المتحدثين لأرى وأسمع أشخاصا يمكن استبدال بعضهم ببعض بسهولة، إنهم أشخاص تغيروا من الفردية إلى ميكانيكية المنصب السياسى، حتى يتواءموا مع طموحاتهم المهنية. فى رومانيا تم اختزال كل الأيديولوجيات فى شخص واحد هو شاوشيسكو، وبنفس الطريقة التى أراد بها قس القرية أن يزرع فى نفسى الخوف من الله فى طفولتى، أخذ كوادر الحزب فى نشر ديانتهم الاشتراكية: أى شىء تفعله يراه الله، إنه فوق الزمان والمكان. وصورة الدكتاتور يدعمها طوال الوقت صوته الذى تبثه أجهزة الراديو والتليفزيون فى فضاء البلاد يوميا ولساعات طوال. صوته كان يقوم بدور الرقابة كل يوم، وكان يألفه كل من يسكن هذا البلد تماما كما يألف صوت المطر أو الرياح. ألف الناس أيضا معجم الديكتاتور اللغوى وحركاته المصاحبة لصوته، وألفوا خصلة الشعر المتدلية على جبينه وأنفه وعينيه إلى جانب اللت والعجن فى نفس الخطب الجاهزة، كل هذا كان مألوفا للناس مثل الأشياء اليومية. ولكن لم يكن كافيا فى اجتماعات كوادر الحزب أن يكرر البعض مقاطع من خطب الديكتاتور حتى يحصلوا على الانتباه والاحترام الكافيين، ولهذا كان الكوادر الحزبية يحرصون فى أى حديث علنى على بذل أقصى جهدهم لتقليد حركات شاوشيسكو. كان المتحدث الأعلى للنظام قد درس حتى السنة الرابعة الابتدائية فى المدرسة، مشاكله لم تكن فقط المحتويات المعقدة أو قواعد النحو (حتى البسيطة منها)، بل كان يعانى أيضا من مشاكل فى النطق، فأى كلمة بها أكثر من حرف ساكن دون فواصل أو كلمة تتغير فيها الحروف المتحركة بسرعة كانت تجعله يتهته. وحتى يتغلب على عيوب النطق هذه، كان يتكلم جملا قصيرة متقطعة كأنها نباح الكلاب، كما كان يكثر من حركات يديه. وقد أدت محاولات تقليد طريقته فى الكلام إلى تشويه واضح درامى ومضحك فى نفس الوقت للغة الرومانية. كنت كثيرا ما أقول فى ذلك الوقت، إن أكثر كوادر الحزب شبابا هم أكبرهم سنا لأنهم استطاعوا تقليد الديكتاتور بسلاسة ودون مجهود يلحظ، كما أن تقليدهم له أكثر براعة من الأكبر سنا. كانوا طبعا مضطرين لذلك بوصفهم فى بداية مستقبلهم المهنى. ولكن عندما بدأت العمل مع الأطفال فى الروضة غيرت رأيى، فكوادر الحزب الشباب لم يكونوا مقلدين للديكتاتور. تلك كانت لغتهم فعلا وحركاتهم فعلا. لقد تربوا على ألا يكون لديهم أبدا لغة جسدية أو لغوية خاصة بهم. عملت لمدة أسبوعين فى إحدى رياض الأطفال ولاحظت أن الجميع يقلد شاوشيسكو حتى من هم فى الخامسة من عمرهم. كان الأطفال مهووسين بقصائد الحزب والأغانى الوطنية والنشيد الوطنى، عملت فى روضة الأطفال بعد فترة طويلة من البطالة إثر فصلى من أكثر من مصنع ومدرسة، حيث لم يرغب أحد فى الاحتفاظ بى بسبب: «تصرفات فردية واضحة، عدم التأقلم مع الجماعة، وغياب تام للوعى الاشتراكى». كان العام الدراسى قد بدأ لتوه، وأخذت مكان إحدى المدرسات التى مرضت فجأة بالصفراء ولم يكن من المتوقع عودتها سريعا. وفكرت بينى وبين نفسى عندما بدأت العمل أنه لا يمكن أن تكون حضانات الأطفال بنفس فظاعة المدارس، فلابد أن البلاد بها بعض الطفولة البريئة التى لم تتعرض بعد للتشويه الفارغ المتكرر الذى تمارسه الأيديولوجيا، فلابد وأن الأطفال يلعبون بالعرائس والمكعبات، ولابد أنهم يحبون الرقص أيضا، كما أننى كنت مفلسة تماما، ولم أكن أملك سوى الديون وأقساط الشقة اللازم دفعها كل شهر. فقد أيقنت أننى فى حالتى تلك لا يمكن أن أترك نفسى تحت رحمة أى مستأجر يستطيع بسهولة أن يرمينى فى الشارع إذا أدرك أن المخابرات ورائى فى كل تحركاتى. فى تلك السن كنت مازلت أعيش على ما تعطينى إياه أمى الفلاحة فى إحدى المزارع الجماعية والتى كانت تعمل ليلا ونهارا لتؤمن حياتى. أخذتنى مديرة الحضانة فى أول يوم لى هناك إلى مجموعة الأطفال المسؤولة منى. عندما دخلنا الفصل قالت بصوت يكاد يكون غير مسموع: «النشيد الوطنى» وبشكل ميكانيكى انتظم الأطفال فى نصف دائرة، وضموا أيديهم فى تشنج على أرجلهم ومدوا رقابهم ونظروا إلى الأعلى، كانوا أطفالا قد قفزوا لتوهم من فوق مقاعدهم الصغيرة ليشكلوا نصف دائرة وينشدوا مثل الجنود. غناء الأطفال كان صراخا ونباحا أكثر منه غناء، المهم ليس جمال الصوت ولكن قوته وطريقة الوقوف، النشيد الوطنى طويل، وقد ازداد فى السنوات الأخيرة عدد فقراته، أعتقد أنه قد بلغ سبع فقرات. وبسبب تعطلى الطويل عن العمل، لم أكن ملمة تماما بتلك التغيرات، ولم أعرف الفقرات الجديدة المضافة إلى النشيد الوطنى، وبعد الفقرة الأخيرة انفرطت نصف الدائرة، وأفلت زمام الأطفال الواقفين مثل الألف وأخذوا فى الصياح والصراخ، تناولت المديرة عصا من أحد الأرفف وقالت: «لابد من العصا» ثم همست فى أذنى وطلبت من أربعة أطفال أن يتوجهوا إلينا وأرسلتهم إلى أماكنهم بدون عقاب. ثم بدأت فى تنويرى وأطلعتنى على مناصب أهل هؤلاء الأربعة فى الحزب، فأحد الأطفال كان حفيد سكرتير عام الحزب، وهنا يجب أن تنتبهى، فهو لا يحتمل أى معارضة ولابد أن نحميه من الأطفال الآخرين بغض النظر عما يقوم به من حماقات ثم تركتنى وحدى مع الأطفال. ورأيت فى أحد الأرفف عشراً من العصيان الرفيعة مثل القلم الرصاص والطويلة مثل غصن شجرة، ثلاثاً منها كانت مكسورة بالفعل. فى ذلك اليوم بدأت أولى قطع الثلج الكبيرة المهوشة فى السقوط. سألت الأطفال إذا كانوا يعرفون أى أغنية عن الشتاء. أغنية عن الشتاء، ولكنهم لا يعرفون أى أغنية عن الشتاء. ثم سألت عن أغنية عن الصيف. هزوا رؤوسهم نفيا. ثم سألت عن أغنية عن الربيع أو الخريف. فى النهاية اقترح أحد الأطفال أغنية عن قطف الأزهار. غنى الأطفال عن العشب والوديان الخضراء، وفكرت بينى وبين نفسى أن تلك الأغنية عن الصيف، حتى لو لم يعرفوا ذلك، بعد قليل تطور الموقف: فبعد أول فقرة عن الصيف تطورت الأغنية لتصبح أغنية تمجد الزعيم فأجمل زهرة حمراء تهدى إلى الزعيم المحبوب، وفى الفقرة الثالثة يفرح الزعيم ويبتسم لأنه أكثر الناس حنانا واهتماما بأطفال البلاد كلهم. لم يفهم الأطفال مفردات الفقرة الأولى، الوديان الخضراء والعشب، فالغناء كله من أول كلمة كان غناء محموما، كان يدفع الأطفال إلى السرعة، وكلما كانوا يقتربون من الفقرة التى تهدى فيها الزهرة إلى الزعيم الذى يبتسم كان غناؤهم يعلو ويسرع ويغلظ، تلك الأغنية التى جادت على الصيف بفقرة واحدة، منعت بعد ذلك أى تصور للمناظر الطبيعية التى تتحدث عنها. كما منعت فهم ما وراء إهداء الزهرة، فشاوشيسكو كان كثيرا ما يحمل الأطفال على ذراعه بالفعل، ولكن كان هؤلاء الأطفال يظلون فى الحجر الصحى حتى اللحظة التى يحملهم فيها للتأكد من عدم نقلهم أى أمراض إليه، افترضت الأغنية الغياب الذهنى التام لمن يغنيها، واختزلت فى مقطوعاتها كل ما يحدث فى رياض الأطفال فى رومانيا فى ذلك الوقت. من كتاب «الملك ينحنى ثم يقتل» نشر عام 2003