كان صديقى وأستاذى الرائع محمود عوض، رحمه الله، مؤمناً بقيمة الموهبة وموقناً بقدرة المواهب الحقيقية على فرض نفسها ولو بعد حين، لكنه كان يجزم بيقين أن المواهب فى بلاد مثل بلادنا لا تُعرف فيها أسباب مقنعة للصعود ولا مبررات واضحة للهبوط، تتحول إلى لوحة نيشان يصوب نحوها كل محدودى الموهبة نيرانهم فى سبيل ضمان بقائهم فى المشهد العام دون الحاجة للدخول فى سباق مع موهبة حقيقية ستدفعهم بلاشك للهاث والسقوط فى منتصف الطريق. كان محمود عوض من هؤلاء المواهب الذين تعمّد عشاق السلطة الصحفية إزاحتهم، لذلك اقتنع تماماً بأن الموهبة بقدر ما هى نعمة لصاحبها بحكم المنطق تتحول إلى عبء كبير يحمله على ظهره ويعانى بسببها، وربما تأتيه «الأذية» من حيث لا يدرى.. وممن لا يحمل لهم ضغينة أو يبادلهم عداء، لمجرد أن موهبته بدلاً من أن تجمع حوله من يصفقون ويقولون «الله» حرضت عليه واستعدت من حوله من أجل صراع على بقاء وقتى، لم يشك محمود عوض لحظة أنه محسوم لصالحه. وحين تجتمع الموهبة مع الشباب تكون الطامة الكبرى، فمنطقياً يبدو عامل الزمن يسير فى اتجاهه الصحيح، لذلك تكون الرغبة فى إزاحه الموهوبين مبكراً هدفاً استراتيجياً لأنصاف وأرباع المواهب. عانى محمود عوض من ذلك فى أخبار اليوم على مستوى الصحافة.. وعانى ذلك أيضاً الوزير منصور حسن على مستوى السياسة.. عد إلى حوار السيدة جيهان السادات مع «المصرى اليوم» قبل أيام، وشهادتها عن منصور حسن التى قالت فيها: « هو إنسان فاضل وعلى خُلق ومثقف، ولكنه تعرض للظلم نتيجة سوء فهم موقعه ودرجة قربه من الرئيس السادات، الذى لم يكن يعرف منصور حسن قبل تعيينه فى الوزارة، ولكنه أُعجب به وبفكره وحماسته وكان فخورا به كشاب متميز، ولكنه كان يرى وقتها أنه بحاجة للصقل ولذا كان يؤهله ليصبح رئيساً للوزراء.. ونتيجة منحه عددا من الصلاحيات لتسهيل ممارسته لمهامه أُشيع وقتها أنه سيتم تعيينه نائبا للرئيس، وهذا غير حقيقى، لأنه كان قد اختار نائبه الذى صار رئيساً لمصر من بعده.. وأعتقد أن مصر خسرت منصور حسن ولم تستفد منه ولا من خبراته». دخل منصور حسن دائرة الضوء شاباً فأثار عواجيز السياسة وكهنتها، وأظهر موهبة خاصة، وموقفاً واضحاً، ووجهة نظر مستقلة ولاؤها للوطن والنظام الشرعى الذى يحكمه، فكانت الوشايات والاستهدافات، أجمعت شهادات معاصرى فترة توهجه على رفضه لاعتقالات سبتمبر، ومن قبلها رفضه منطق التعامل مع أحداث يناير 1977، لم يكن يرفض ويختلف «عنداً» فى السادات بقدر ما كان يحبه ويحرص على صورته كحاكم وصورة نظامه، ويؤمن بمبادئ الديمقراطية التى رفعها السادات دون أن يعتبرها مجرد شعارات للاستهلاك كما كان يفعل كل المحيطين بالرئيس الراحل آنذاك، كان مستشاراً لا يقول للحاكم ما يحب أن يسمع بقدر ما يقول له ما يجب أن يسمع، تلك أمانة القرب من السلطة التى فرط فيها الجميع.. قال للسادات قبل 32 عاماً إن الأحزاب لا يجب أن تولد فى السلطة، وقال بعد مرور هذه الأعوام إن الحزب الوطنى ولد ومات فى نصف ساعة. اختار محمود عوض عزلة إرادية بعد نجاح السيناريو «المرضى» لإبعاده عن أخبار اليوم.. وفضل أن يطل على العالم بكتبه ومقالاته ورؤيته.. واختار منصور حسن الظل بعد نجاح سيناريو الإطاحة به قبل أيام قليلة من رحيل السادات، وفضل أن يكون قليل الكلام، وإذا تكلم أنصت الجميع.. لكنه لا يغادر أبداً ذاكرة من يدلون بشهادات حول هذه المرحلة. خسرت مصر محمود عوض، وتخسر منصور حسن، وتواصل خسارة آخرين وآخرين دون أن تبالى أو تكترث، احترفت التفريط فى المواهب فى كل مكان وفى كل مجال، بنت وتبنى لهم المشانق كل صباح، تمنح «الأرباع والأنصاف» سياطاً ليلهبوا بها ظهورهم.. فيرحلوا أو يبتعدوا، لتبقى ساحاتها حكراً على التافهين والفاشلين.. فينزوى الأمل أمام الخراب. [email protected]