تابعت الحوارات والتعليقات والمناظرات الصحفية والتليفزيونية التى دارت حول قضية التطبيع بمناسبة العاصفة التى أثارها استقبال د. هالة مصطفى للسفير الإسرائيلى، فبدا لى أن هناك كثيراً من التشوش والتداخل ونقص المعلومات يتطلب تذكير كل الأطراف، خاصة التى لم تعاصر نشأة حركة رفض التطبيع ببعض أصول المسألة. من بين ظواهر هذا التشوش، مطالبة أنصار التطبيع للدولة بأن تحسم أمرها تجاه التطبيع، إذ ليس من المنطقى فى رأيهم أن تكون هناك معاهدة سلام تلزم مصر بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن يستقبل المسؤولون الحكوميون نظراءهم الإسرائيليين، وحين يمارس ذلك صحفى أو عضو بأى نقابة مهنية أخرى تحاصره عواصف الهجوم وتهديدات العقاب، وهو منطق يخلط أصحابه بين «التطبيع الرسمى» الذى تلتزم به الحكومة كأحد شروط المعاهدة، و«التطبيع الشعبى» الذى لا يوجد فى نصوص هذه المعاهدة ما يلزم به الهيئات الشعبية، أو يجبر مواطناً على القيام به، وكان ذلك هو الأساس الذى صدرت استناداً إليه قرارات الجمعيات العمومية ل26 نقابة مهنية، فضلاً عن الاتحاد العام للعمال والأحزاب السياسية غير الحاكمة، وبعض هيئات المجتمع المدنى، بحظر التطبيع مع إسرائيل، وهى قرارات لم تعترض الإدارة المصرية، حتى فى عهد الرئيس «السادات» الذى كان متحمساً للتطبيع، بل إن إدارة الرئيس مبارك، تستخدمه كسلاح تفاوضى مع إسرائيل، فتقوم بتبريده أو تسخينه حسب الأحوال. حركة رفض التطبيع إذن حركة شعبية لا صلة لها بالتطبيع الرسمى، ودورها بالنسبة له، هو الضغط لإبقائه فى الحد الأدنى، ومطالبة الحكومة بحسم أمرها بشأن التطبيع، تنطوى على تحريض لها باتخاذ إجراءات أو إصدار قانون يلزم النقابات المهنية والعمالية بتطبيع العلاقات، ويعاقب من يدعو لمقاطعة إسرائيل، وهى دعوة للتدخل الفظ فى شؤون هذه النقابات، تتنافى مع الديمقراطية.. ومع نصوص الدستور. ومن ظواهر التشوش الذى يشيعه دعاة التطبيع اتهام خصومهم من الرافضين له، بأنهم دعاة حرب، يرفضون السلام، بهدف تنفير المواطنين منهم، باعتبارهم مغامرين يسعون لتوريط مصر فى حرب مع إسرائيل، تسيل بسببها الدماء، وتستنزف الموارد، مع أن رفض التطبيع لا يعنى رفض السلام، ففضلاً عن أن كل القرارات التى أصدرتها النقابات المهنية والعمالية والأحزاب السياسية فى هذا الشأن تنص على حظر التطبيع إلى حين جلاء إسرائيل عن كل الأراضى العربية المحتلة، واعترافها بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته، مما يعنى أن هذه القرارات مؤقتة ومشروطة وسوف تلغى تلقائياً عند تحقيق هذه الشروط فإن رفض التطبيع على الصعيد الشعبى، هو سلاح تفاوضى للضغط على المفاوض الإسرائيلى، خاصة بعد تآكل وسائل الضغط الأخرى، لإقناعه بأنه سيظل بعيداً عن السلام الحقيقى، ما لم يلتزم بالجلاء الشامل والدولة الفلسطينية. والحقيقة أن جانباً من التشوش، حول الموضوع، يعود إلى تعدد وتناقض الاجتهادات حول تفسير نصوص القرارات التى أصدرتها الجمعيات العمومية للنقابات المهنية بشأن التطبيع، يتضمن تحديداً للأفعال المؤثمة، ككل نص منضبط، وهو تشوش لا يقتصر على دعاة التطبيع، بل يشمل كذلك الرافضين له، ففى حين ذهبت د. هالة والمناصرون لها، إلى أن الحوار مع الإسرائيليين، واللقاءات المهنية معهم، لا تخالف نص قرار الجمعية العمومية للصحفيين بشأن حظر التطبيع، ذهب آخرون من رافضى التطبيع إلى أن حضور مندوبى الصحف فى الخارجية المصرية، لمؤتمر صحفى يشارك فيه مسؤولون إسرائيليون ليس تطبيعاً، مع أن نص القرار واضح فى حظر كل أشكال التطبيع المهنى والشخصى، وهو يشمل كل سفر أو لقاء أو مؤتمر صحفى أو اتصال بشخصية إسرائيلية، داخل مصر أو إسرائيل أو فى أى مكان فى العالم. وما أتمناه أن نفتح الباب لمناقشة تستهدف ضبط المصطلح، حتى لا يفسره كل صحفى على مزاجه، بحيث يحدد بشكل دقيق الأفعال التى تعتبر تطبيعاً، والاستثناءات التى قد ترد عليه، ليكون نموذجاً تتبعه النقابات الأخرى، لسد الباب أمام الإشكاليات التى يثيرها الخلاف حول التعريف على نحو يحول دون التحايل لمخالفته، أو تطبيقه بشكل مزاجى وانتقائى، أو اتخاذه وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية والانتخابية، وآمل أن أستطيع خلال فترة قصيرة تقديم مسودة لقرار فى هذا الشأن، تكون أساساًً للحوار حوله. ويبقى بعد ذلك الخلاف بين دعاة التطبيع والرافضين له، وفى داخل المعسكر الأخير، حول حق نقابة الصحفيين أو أى نقابة مهنية أخرى، فى إحالة المخالفين لقرار حظر التطبيع إلى المحاكمة التأديبية، ولى فيه موقف معلن منذ سنوات، يقول بوضوح: ليس من حق نقابة الصحفيين أن تفعل ذلك، ومن الخطأ والخطر على حركة مقاومة التطبيع أن تفعله.. وهى مسألة تحتاج إلى بيان.. ولنا عودة.