لم تكن استقالة القاضى المحترم محمود الخضيرى مفاجأة لى بالنظر إلى مواقفه السابقة وتاريخه المشرف فى سلك القضاء.. وقد ذكرنى هذا الموقف مع اختلاف الظروف بالاستقالة المسببة التى كنت قد قدمتها منذ بضع سنوات من منصبى كوكيل لكلية طب القاهرة لشؤون التعليم والطلاب، وذلك احتجاجاً على التدخل السافر لأمن الدولة فى كل شؤون الجامعة، بدءاً من تعيين رئيس الجامعة وحتى تعيين أصغر معيد فى الكلية.. فلما أحسست بعدم قدرتى على الاستمرار فى هذا الجو الخانق، قررت الاستقالة لبدء مرحلة جديدة من محاولات كشف الأوضاع المتردية فى الجامعات المصرية من جهة، والعمل بكل الطرق لتحقيق استقلال الجامعات من ناحية أخرى. ولقد تعجبت من اعتراض بعض الكتاب على استقالة المستشار الخضيرى.. فما يحدث فى مصر اليوم أصبح غير قابل لأى نوع من المهادنة ومحاولات الترقيع هنا وهناك.. والحل الجذرى الوحيد فى رأيى هو الإصلاح الشامل والعاجل، الذى ينبغى أن يكون على كل المستويات فى آن واحد: السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى.. وأن يكون هذا الإصلاح نابعاً من أصحاب المصلحة الحقيقية، وهم أبناء الشعب المصرى، الذين أصبحوا غرباء فى بلادهم.. تنهب ثرواتهم أمام أعينهم وهم يعانون من أجل الحصول على الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وسط حصار أمنى غاشم جاثم على الصدور، وخنق كامل كل الأحزاب الحقيقية ومنظمات المجتمع المدنى، واختراق واضح وفاضح للسلطة القضائية التى أصبحت الملاذ الوحيد الباقى أمام هذا الشعب المغلوب على أمره. فى هذا الجو الخانق الكئيب.. ماذا عسانا نفعل نحن المهمومين بهذا البلد؟! لم يعد أمامنا جميعاً إلا هذا الطريق، وهو الاستقالة التى أتمنى أن يقدمها كل من يشعر بأنه قدم كل ما عنده، وبذل أقصى ما يمكن لإصلاح الموقع الذى يعمل به، ولكنه لم يسلم من قوى الفساد والإفساد. وكل من يشعر بأن رؤساءه يهبطون إلى مواقعهم بناء على التقارير الأمنية والعلاقات الشخصية وتفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة، وكل من يشعر بأنه أصبح غريباً فى وطنه وليس أمامه إلا الهروب أو الوقوع فى براثن الاكتئاب.. عليهم جميعاً أن يبادروا بتقديم استقالاتهم ويعلنوا أسبابها أمام العالم أجمع. وليس هذا بالتأكيد هروباً من المسؤولية، ولكنه فى حقيقة الأمر بداية لطريق بديل طويل من أجل الإصلاح المنشود، وخطوة تكتيكية لازمة لإجبار النظام الحاكم على الرضوخ لإرادة الشعب وليهنأ المشتاقون والمتسلقون والمنافقون بمناصبهم، وليضحكوا قليلاً لكى يبكوا بعد ذلك كثيراً عند انقشاع الغمة وبزوغ فجر الإصلاح. إنها مصرنا جميعاً.. ولن تكون فى يوم من الأيام حكراً على شخص أو أسرة أو حزب أو مجموعة.. ولنعلم يقيناً أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. ولنكن صادقين مع أنفسنا، فإما أن يفيق النظام الحاكم من غفلته، ويعود إلى رشده، ويبدأ إصلاحاً جذرياً حقيقياً يعيد إلى مصر مكانتها اللائقة بها.. وإما الخروج من عباءة هذا النظام بكل الطرق المتاحة، حتى يتمكن الشعب من حكم نفسه بنفسه وتعود الأمور إلى نصابها.. والله غالب على أمره.