أبناؤنا فلذات أكبادنا فقدوا البرج الوحيد المتبقى فى أدمغتهم!.. إذا سألت أحدا منهم: «لما تكبر تحب تطلع إيه؟»، بدون تفكير سيجيبك: «لعيب كورة!».. وإذا صادفت طفلا ساذجا يجيب سؤالك بأنه يريد أن يصبح طبيبا أو مهندسا مثلما كنا نجيب ببلاهة على هذا السؤال زمان، ستجد نفسك تتساءل سرا: إيه العبيط ده؟.. وبصراحة شديدة، أراهم على حق، ففى ظل هذا التركيز الرهيب على كرة القدم والأرقام الفلكية التى يتقاضاها اللاعبون الآن لابد أن نسلم بأنه «راح زمن الشهادات!».. وللأسف أن ابنى المدعو «حسن» أصبح من أولئك الذين ندهتم النداهة.. وفى ليلة صفا نادرة طلبت منه أن يكتب لى جدول مذاكرته النهائية.. غاب طويلا ثم جاءنى وأعطانى ورقة.. قرأت أول سطر: من الساعة 7- 8 علوم، من 8- 10 الأهلى وإنبى من 10-12 الكورة مع دريم !.. فسألته: إيه ده؟ فأجاب بثقة: ده جدول المذاكرة!.. فسألته: «و يعنى إيه الأهلى وإنبى والكورة مع دريم؟».. فرد بثقة أكثر: «ما انا لازم أظبط مذاكرتى حسب جدول إذاعة المباريات فى التليفزيون! وأهم حاجة برنامج الكورة مع دريم علشان تحليل الماتش، مش كفاية إنى مش باروح الاستاد علشان المذاكرة؟».. ورغم يقينى بحجم تضحيته هذه، إلا أننى اضطررت على استحياء أن أذكره أنه فى هذا العام يذاكر لشىء اسمه الإعدادية والمفروض أن يستذكر بجدية ليس من منطلق الحصول على «مجموع عالى» والعياذ بالله وإنما من منطلق الحصول على ثواب بر الوالدين طالما أنى لا أجاهده على أن يشرك بالله! وطبعا لمحت فى عينه سؤالا صامتا يبحث عن إجابة: «وهل تجوز طاعة الأم المتخلفة عقليا؟».. وفى يوم من تلك الأيام الحزينة فوجئت به يلح على أن أشترى له حذاء كرة وأن أحجز له من الآن فى مدرسة الكرة بالنادى لأن من وجهة نظره طالما الامتحانات قربت تبقى الأجازة قربت!!.. ونظرا لضعف موقفى وجدت نفسى أرضخ لهذا الجبروت وأصحبه إلى أحد محلات الرياضة.. وبعد البحث والمشاورات اختار حذاء بالنتوءات.. ثم توجهت للكاشير بمنتهى الثقة كى أدفع ثمنها.. وفوجئت بالسعر! فقد كان الرقم أكثر من ضعف مرتبى الذى أتقاضاه على مدى سنين عجاف من عملى كطبيبة فى صرح طبى جامعى عريق!! فسألت الرجل: «ليه يعنى؟ ما بقية الأسعار عندكم أقل من كده بكتير جدا»... فأجاب: «أصل دى جزمة محترفين»... ذهلت أكتر.. وقلت له: «محترفين؟ طيب عايزاك تبص كده ع الولد اللى معايا ده، بذمتك ده منظر محترفين؟».. فقال: «أصل اليومين دول الإقبال زاد»... تعجبت جدا من هذا التناقض الذى نعيشه: كيف يزيد الإقبال فى الوقت الذى يعانى فيه الناس من غلاء السلع الرئيسية وضعف الأجور.. طيب أنا هبلة وابنى بيعرف يضحك على .. هل بقية الناس هم أيضا هِبل مثلى؟!.. نظرت لابنى حتى يعيد الحذاء مكانه ونرحل، فوجدت اللئيم ينظر لى فى براءة واستعطاف.. فكرت آخذه على جنب وأفهمه إنى أصلا مش والدته وأنى وجدته على باب الجامع وبالتالى فأنا لست مُلزمة بشراء الحذاء.. وبرضه فكرت أسيبه فى المحل وأجرى.. وفى وسط تلك الأفكار الشريرة إذا به يباغتنى بقبلة على خدى.. غالبا استشعر نوايا الغدر اللى ظهرت على وجهى.. لكن طبعا بقبلته هذه جابنى فى التمانيات فدفعت المبلغ فورا.. وهكذا.. انتهت مذبحة المماليك.. وخرجنا من المحل.. وظللت طول الطريق للمنزل وأنا أحسب عدد الوجبات التى سأحرمه منها حتى أعوض ثمن الحذاء!.. ووصلنا المنزل وإذا به يضع الحذاء فى البلكونة!!.. فسألته عن السبب فأجابنى بمنتهى الثقة إن هذا الجلد لأنه طبيعى فلابد أن يبيت فى البلكونة من أجل الأوكسجين.. فقاطعته وصرخت فيه: «باقولك إيه.. الجزمة دى عمر ما حد فى عيلتك لبس زيها، ولو انت بتذاكر دروسك كنت عرفت إن ولا حتى محمد على باشا لبس زيها.. من هنا ورايح فى البرد ده تبيتها بالليل فى سريرك وتغطيها باللحاف وانت تبقى تنام فى البلكونة».. وفجأة.. تذكرت كيف أن كبار رجال الدولة أصبحوا يتدخلون فى أزمات اللاعبين مع أنديتهم ويقومون بحلها بالتليفون دوناً عن بقية المشاكل التى نئن منها.. فتنبهت وحمدت الله أن أضاء بصيرتى وأخرجنى من الضلال فى اللحظة الأخيرة وقلت لنفسى: «ابنك ده شكله ماشى على الطريق السليم.. وأكيد عندما يصبح لاعب كرة سيصبح معارفه من كبار رجال الدولة.. وأكيد هتحتاجى منه كارت توصية».. فقررت أتراجع عن موقفى.. ورسمت الابتسامة العريضة على وجهى.. وخفضت صوتى وقلت بمنتهى الحنان: «معقول يا حسونة تصدق إن مامى تسيبك تنام فى البلكونة؟ انت عارفنى أنا على طول باهزر.. دى الجزمة دى بالذات أنا أول ما شفتها فى المحل قلبى اتحدف عليها، دى حتى سبحان الله وشها يشبهلى.. شوف يا حبيبى، خد الجزمة معاك ونام إنت وهى فى سريرى واتغطوا كويس.. وأنا اللى هانام فى البلكونة.. وان كان على جدول المذاكرة اللى مزعلك، ما تتعبش نفسك أنا هأكتبه بنفسى دلوقت.. هات ورقة وقلم.. قل لى بقى «الكورة مع دريم» بييجى الساعة كام؟».