أكثر ما يلطف درجة حرارة الهم فى هذه الأيام، استعادتك لذكريات حلوة، عشتها مع صديق لك، فارقته منذ زمن، ثم جمعتكما الظروف على غير توقع، لتجدا نفسيكما متزينين بحلى الماضى وفسيفسائه الملونة بنخوة الشباب وجرأته، وهاربين من مرارة الواقع لفيض من ذكرى تثير الشجن، وتلهب الفكر، وتعيد بعث الروح فى عملاق كاد يحتضر بين عيوننا، اسمه الوطن. احتشدت فى كل هذه الأحاسيس، وأنا جالس فى مكان ما، فإذا بشخص يربت على كتفى، ثم يضع يدى فى يده، ثم يعانقنى عناقاً حاراً، لم أصدق نفسى، إنه صديقى الدكتور أحمد عطا، عضو هيئة التدريس بكلية الآداب جامعة القاهرة، والذى لم أقابله طيلة العشرين سنة المنصرمة، منذ التقينا على أعتاب المرحلة الجامعية، وعشنا سنواتها الشابة، حتى افترقنا -بعد أربع سنوات- على صخرة الواقع، ومضينا كل فى طريقه، كان اللقاء جامعاً لأجمل معانى الشوق. وبعد أن انتهينا من السلامات والتحيات والذى منه، وجدته يغازل فى الثائر المتمرد -كما اعتاد معى سابقاً- ويناقشنى فى موضوعات مختلفة، ربما كان أهمها: حديثه عما نشر بجريدة الأهرام يوم الاثنين الماضى، حول فشل الجامعات المصرية فى الحصول على أى ترتيب ضمن أفضل خمسمائة جامعة على مستوى العالم، لافتقارها معايير الأفضلية، من حيث الأبحاث والمنشورات العلمية وإسهامات الأساتذة، وقال لى معلقاً على ما قرأه فى الجريدة: إن هذا الترتيب لا يعبر عن قيمة جامعة القاهرة بين الجامعات الأخرى. وفى ظنى أن أسباباً أخرى غير علمية تقف وراء وضعه. فقاطعته قائلاً: وهل يعنى هذا رضاءك عما آلت إليه الأوضاع فى الجامعات؟ فأجابنى: لا يرضينى ما آلت إليه الأوضاع عموماً، لكن لطم الخدود لن ينقذ الناس من الغرق، وهناك شرفاء فطروا على كراهية الفرجة، وبذلوا ما فى وسعهم، للقيام بدور محترم والإبقاء على سفينة العلم صامدة فى مواجهة أمواج المتخلفين والمحبطين وعضاضى الأصابع، وسأعطيك مثلاً، فقد قام المسؤولون فى جامعة القاهرة، بإنشاء وحدات لضمان الجودة، يعمل فيها عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس، والمؤهلون بعد حصولهم على دورات تدريبية متعددة تمكنهم من رصد الواقع الحقيقى للتعليم داخل الجامعة، لوضع المشاكل فى طريق الحل. قلت له: هل هناك قدرات تستطيع استكشاف هذه الإمكانيات؟ أجابنى: إن كلية الآداب مثلاً والتى أنجبت العباقرة: طه حسين، سهير القلماوى، شوقى ضيف، عبدالمحسن طه بدر، لا تزال محمولة على أكتاف نوابغ فى اللغة والنقد والأدب مثل: د.جابر عصفور، د.عبدالله التطاوى، د.مى يوسف خليف، د.سيد البحراوى، د.عوض الغبارى، د.عبدالحكيم راضى وغيرهم كثير من الكواكب الدائرة فى خدمة شمس المعرفة، وهو ما يعنى أن جامعاتنا بخير، ومليئة بالكوادر العلمية المحترمة، ويمضى الوقت بسرعة فى أخذ ورد، ومثلما تدخل القدر ليجمعنى بصديقى يضع نهاية للقاء. فودعته بعد أن استودعنى أسئلة كثيرة فى حاجة لإجابات: هل وصلت جامعاتنا من الضعف إلى الحد الذى يجعلها خارج ترتيب خمسمائة جامعة فى العالم؟ هل تقلص دورها فى ضخ دماء نظيفة فى عقول الشباب وإبداعاتهم؟ هل فقدت مكانتها بيننا، وبالتالى ضاعت مكانتها بين دول العالم؟ وإذا كان هناك خلل فى منظومة الجامعات، فمن الذى وضع سيناريو هذا الخلل؟ ولصالح من يستمر؟ هل الجهود التى تبذل كافية لما يجب أن تقوم به الجامعة من أجل خدمة المجتمع؟ بصراحة شديدة أنا لست متفائلاً بشأن كل ما يقال عن إصلاح الجامعات وسياسات التطوير والجودة لأنها تتم دون التجاوز للأخطاء المتراكمة السابقة، ولا معنى لإصلاح الفروع طالما فسدت الجذور، صحيح أن شموع الجامعات لم تنطفئ بعد، لكنها لم تعد قادرة على إنارة الطريق للباحثين عن نور المعرفة، وهذا طبيعى، فإلى من سيتحدث الخطيب عندما يذهب إلى مسجد لا يجد فيه مصلين؟ وماذا سيفعل أستاذ الجامعة إذا كان الطلاب الذين يحاضرهم إفراز عملية تعليمية فاشلة، أنتجتها معتقلات تابعة للتربية والتعليم، وليست مدارس، وغذتها ثقافة الاحتيال والغش والتلقين، وقتل روح البحث والإبداع فى براعمنا، ومارسها بعض مدرسين حولوا دور العلم لمكاتب سمسرة، يتنافسون فيها على سرقة ما فى جيوب الأطفال وأولياء أمورهم؟ ما الذى سوف تقدمه الجامعات فى ظل محدودية الإمكانيات وغياب النظرة الشاملة، وعدم الاستقلالية فى وضع البرامج، والحضور الطاغى للولاية الأمنية عليها صباح مساء؟ إلى من ستوجه رسالتها العلمية، فى ظل تعدد الاستراتيجيات: تعليم عام، تعليم خاص، تعليم عادة وآخر لوكس، تعليم أزهرى، تعليم استثمارى، تعليم أمريكى، تعليم هندى...إلخ؟ طبعاً كل هذه السلبيات لن تخرج جامعاتنا عن منافسة خمسمائة جامعة فحسب، بل ربما تخرجها من العملية التعليمية كلها، وتفصلها فصلاً تاماً عن سوق العمل، لتجعلها -رغم قيمتها- مجبرة على فقدان دورها، ومجرد وعاء يحوى طوائف وأطيافاً من الطلاب، مختلفين فى كل شىء، فى الإطار الثقافى والاجتماعى، فى المتطلبات والضرورات، فى البناء الخلقى والطبقى والفكرى، لكنهم متحدون على كراهية البحث والتعلم والإبداع. وعندما تصل بنا الأمور إلى هذا الحد من التردى لا يحق لنا أن نغار على فقدان جامعاتنا لترتيبها بين جامعات العالم، لأننا رضينا لها أن تضيع بيننا، ولكى نعيدها للصدارة، لا بد من نظرة انقلابية تصحح جذرياً السياسة الفاشلة لتعليم ما قبل الجامعة، لأن ما بنى على خطأ، سيهدم كل ما هو صحيح. [email protected]