نظم مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام أمسية ألقى خلالها وزير خارجية تركيا محاضرة شرح فيها توجهات السياسة الخارجية لبلاده وحضرها جمع من الأكاديميين والإعلاميين والسياسيين. والوزير أحمد داود أوغلو كان أكاديميا مرموقا، قبل أن يعمل بالسياسة مستشارا لرئيس الوزراء، ثم وزيرا للخارجية فى حكومة حزب العدالة والتنمية، وقد حضرت اللقاء رغبة فى الاستماع لذلك الأكاديمى صاحب الرؤية المتميزة فى الشؤون الدولية الذى استطاع من خلال منصبه الرسمى أن يحول النظرية إلى واقع وأسهم مع حزبه فى تحقيق إنجاز مهم غيَّر وجه تركيا على الساحة الدولية وحولها إلى قوة إقليمية يحسب الجميع حسابها، وطوال الطريق كان يراودنى سؤال تمنيت أن أجد فى حديث الوزير إجابة عنه، يتعلق بالكيف لا المضمون، فنحن نعرف «ما» حققته تركيا خارجيا فى السنوات الأخيرة لكن المهم هو «كيف» حققته وأين كانت نقطة البدء، وأعتقد أننى وجدت بين ثنايا ما قاله الوزير الإجابة عن ذلك السؤال، كان أول ما لفت انتباهى فى سرد الوزير للمبادئ الستة المعروفة للسياسة الخارجية التركية هو ترتيبه لها، فقد جاءت الحرية على رأس القائمة، فقد قال داود أوغلو إن المبدأ الأول كان إحداث التوازن الدقيق بين الحرية وتحقيق الأمن بما يضمن عدم التضحية بالحرية باسم حماية الأمن، وفى تقديرى، أن هذا الترتيب هو أحد المفاتيح المهمة التى تشرح «الكيف» التركى، فالحكومة، أى حكومة لا يمكنها إدارة سياسة خارجية ناجحة دون أن يكون ظهرها محميا بحد أدنى من الإجماع الوطنى فى الداخل وهو ما لا يتحقق دون مجتمع ديمقراطى حى قادر على التفاعل بل ومعارضة سياسات الحكومة وتقويمها، ولعل المفتاح الثانى «للكيف» هو ما سماه داود أوغلو «إعادة اكتشاف الذات»، فقد ذكر الوزير أن تركيا حين تسلم حزبه السلطة كانت أمة تنظر لمحيطها بتوجس فلا ترى سوى «أعداء»، فاليونانيون أعداء تاريخيون والقبارصة اليونانيون «أعداء» وكذلك السوريون والعراقيون والروس وغيرهم، ولكل من تلك التوجسات أسبابها طبعا ومبرراتها التاريخية، هنا جاءت أهمية عنصرين، الأول هو وجود رؤية قائمة على الثقة بالذات الوطنية والثانى هو وجود نخبة واعية، أما الرؤية فقد نتج عنها إعادة قراءة للتاريخ على أساس من الثقة بالذات سمحت لتركيا بإعادة اكتشاف هويتها والخروج من أسر تلك التوجسات، حيث اعتبرت أن المصلحة العليا لن تتحقق دون «تصفير» العداوة مع كل الجيران، أى الوصول بالخصومات إلى نقطة الصفر، وقد بذلت تركيا فعلا جهودا مضنية حتى صارت اليوم ذات علاقات ممتازة بأغلب جيرانها، وتلك لم تكن مهمة سهلة إذ استدعت وجود نخبة تمتلك مهارات القيادة لتستطيع تغيير الذهنية التركية نفسها التى سادت لعقود طويلة بخصوص كل أولئك الجيران، وتحسين علاقة تركيا بمحيطها الإقليمى مكنها من ممارسة نفوذ صار هو ذاته المفتاح لعلاقة أكثر توازنا مع العالم الخارجى وبالذات أمريكا. بعبارة أخرى علاقات تركيا بخصوم أمريكا قبل أصدقائها هو الذى دعم نفوذها لدى أمريكا لا العكس حيث صارت الأخيرة فى حاجة للاستفادة من علاقات تركيا الإقليمية، أما الديمقراطية والحريات فكانت خط الدفاع الأول الذى يحمى البلاد إزاء الابتزاز، لأن أى مواجهة معناها خصومة مع الأمة التركية كلها لا الحكومة وحدها،طوال وجودى فى القاعة كانت أذنى مع الوزير التركى وعينى وقلبى على مصر، أرفع القبعة للأتراك وتعتصرنى الحسرة على ما آل إليه وزن بلادى الإقليمى والدولى.