كتب - مصطفى المرصفاوى بعد أن كان المنزل مزدحماً بالأبناء والأحفاد، فجأة انفض الجميع من حولها، ولم يتبق من العائلة الكبيرة سوى مجموعة صور فوتوغرافية تحتفظ بها. خمسة أبناء وحفيدان وزوجة الابن الأكبر هم أفراد أسرة «أم الرفاعى» التى فقدتهم العام الماضى فى حادث الدويقة، ومن يومها وهى تضع كيساً صغيراً إلى جوارها تحتفظ فيه بصورهم، وبين وقت وآخر تنظر إليها وتترحم عليهم ودموعها لا تتوقف. قبل 5 أعوام تركت «أم الرفاعى» وزوجها وأبناؤها منزلهم فى الفيوم للإقامة فى القاهرة، داخل غرفة صغيرة فى «عزبة بخيت»، وبعد 3 أشهر فقط توفى الزوج، فتحملت هى المسؤولية «7 أبناء جميعهم فى سن الزواج»، لم تيأس «أم الرفاعى» ولم تمد يدها للآخرين بل قررت أن تبحث عن مصدر رزق تنفق منه على أبنائها، خاصة أن الأب لم يترك لهم معاشاً، وبعد شهر من البحث المستمر استطاعت أن تجد مكاناً فى سوق الخضار فى منشأة ناصر. بعد مرور عام تزوج الابن الأكبر فى غرفة صغيرة فوق المنزل بنتها «أم الرفاعى»، وعاش جميع أفراد الأسرة فى منزل واحد، وبينما كانت الأم والأسرة كلها على موعد مع الفرحة لزفاف الابنة «سهام» وعقد قران أختها «سنية»، وقع الحادث المشؤوم الذى فقدت فيه كل أبنائها. يوم الحادث استيقظت «أم الرفاعى» فى الصباح الباكر، وخرجت لشراء بعض المتطلبات، وعلى بعد أمتار من العزبة سمعت أصوات انهيارات وصرخات، عادت بسرعة فوجدت المنزل بمن فيه اختفى أسفل الصخور، ونجحت قوات الإنقاذ فى استخراج ثمانى جثث لأبنائها وحفيديها وزوجة ابنها. أيام عصيبة عاشتها الأم بعد هذا الحادث، الذى لم تغب صورته عن عينها ولم تعوضها الشقة التى تسلمتها من الحى ولا مبلغ التعويضات عن أبنائها، ولتصبّر نفسها على البلاء الذى أصابها أدت العمرة وتبرعت بباقى المبلغ لجمعية خيرية للأيتام. «فرج الله»: ولسه عايشة كتبت - فاطمة أبو شنب صراخ وعويل وجثث أسفل الصخور ودماء متناثرة فى كل مكان، مشاهد مؤلمة استدعتها أسر المفقودين فى الذكرى الأولى لحادث الدويقة، ومنهم فرج الله موسى عبدالمولى «52 عاماً»، التى عاشت تجربة قاسية لن تنساها عندما شاهدت صخرة تنهار على منازل قريبة من منزلها، ثم تنقسم إلى أربعة أجزاء، جزء منها ينزلق فوق البيوت حتى يرسو فوق منزلها، يدمره ويزهق معه أرواح زوجها وابنها وابنتها أمام عينيها. كانت «فرج الله» مثل كل أم تحلم باليوم الذى تزوج فيه بناتها، واستعداداً لهذا اليوم كانت تشترى لهن كل شىء وتجمعه فوق سطح المنزل، ولكن الحادث أنهى الحلم، ولم يتبق منه سوى ذكريات مؤلمة. فى السابعة صباح يوم الحادث، خرجت «فرج الله» لشراء الخبز كعادتها كل صباح، وعند عودتها شاهدت الجبل يسقط على المنازل، توقعت أن تنهار الصخرة بعيداً، لكنها سرعان ما استقرت فوق منزلها، ولقى زوجها وابنها وابنتها مصرعهم على الفور. تحاملت «فرج الله» على نفسها ووقفت تتابع رجال الإنقاذ وهم يستخرجون جثث أسرتها، يوم الحادث بعد منتصف الليل خرجت جثة الزوج ثم الابن، أما جثة الابنة فاستخرجوها بعد 40 يوماً، وهو اليوم الأسوأ فى حياة «فرج الله»، حيث ذهبت إلى مشرحة زينهم للتعرف على الجثة، فوجدتها مشوهة الملامح، ولم تتعرف عليها إلا من شعرها وملابسها. بعد أن دفنت جثث ذويها، قضت «فرج الله» وفتياتها الثلاث اللاتى نجين من الحادث 15 يوماً فى الشارع، افترشن الأرض حتى تسلمن الشقة، لكن جهاز البنات الذى جمعته طوال سنوات لم تعوضه، ورغم أن الحكومة -حسب قولها- وعدتها بتعويضها عنه إلا أن أحداً لم يسأل فيها. «محمد»: ياريتنى ما خرجت كتب - مصطفى المرصفاوى شهادة الخدمة العسكرية هى التى أنقذت حياته من الموت، فيوم الحادث ذهب محمد إبراهيم صابر لاستخراجها من مكتب التجنيد، وبعد أن وصل إلى الشارع الرئيسى، وقبل أن يركب الميكروباص، سمع صرخات قوية تنطلق من المنازل، تبعها عدد كبير من سيارات الإسعاف والمطافئ تدخل المنطقة. شعر محمد بخوف شديد، عاد إلى منزله فلم يجده، لأنه اختفى مع المنازل المجاورة أسفل صخور المقطم، ومعه اختفت أسرته بالكامل: والداه وشقيقاته الأربع. بعد ثلاثة أيام من وقوع الحادث عثر رجال الإنقاذ على جثة «هاجر» أخت محمد الصغرى، وبعد يومين عثروا على جثة أخته الثانية، لكن رجال الإنقاذ اضطروا إلى قطع جسدها نصفين لسقوط صخرة كبيرة عليها. قال محمد: لا يمكن أن أنسى مشهد استخراج جثتها، فقد رفضت أن يتعرف أحد أقاربى على الجثث، وتماسكت حتى تعرفت عليها بنفسى، كنت أرغب فى إلقاء النظرة الأخيرة عليهم قبل دفنهم. بعد 35 يوماً من الحادث، استخرج رجال الإنقاذ جثة الأب وجاء التأخير فى استخراجها لأن أعمال البحث عن الجثث توقفت، فذهب محمد إلى أحد ضباط قسم شرطة منشأة ناصر، وطالبه بإعادة البحث عن جثة والده، وبالفعل أرسل معه قوة الحماية المدنية، وتم تحديد مكان المنزل، وبدأت أعمال الحفر.. وبعد مرور ساعتين استخرجت «غارفة الونش» جزءاً من الجثة، تعرف عليها محمد من الملابس، صرخ بأعلى صوته لوقف الحفر، واستخراج باقى الجثة. داخل الشقة التى تسلمها من المحافظة يعيش محمد بمفرده، ولا يريد من الدنيا سوى استخراج إعلان وراثة من المحكمة، لأن القاضى يريد إثبات أى من المتوفين مات قبل الآخر، ورغم أنه أرسل القضية إلى الأزهر للبت فيها، فإن التقارير أكدت استحالة إثبات ذلك، وما زالت القضية متداولة، وقال محمد: لا أعلم ما هو الحل، فالشركة التى كان والدى يعمل بها تريد منى إعلان وراثة حتى يتم تعيينى فيها بدلاً منه! «نورا».. ماعادش فيه بيت يتخرب كتب - فاروق الدسوقى الحادث كتب عليها أن تكون أرملة وعمرها لم يتجاوز 28 عاماً، فزوجها مات تحت الأنقاض، تاركاً لها طفلين دون أى مصدر رزق، ومع ذلك رفضت نورا مطاوع تبرعات أهل الخير والجمعيات الخيرية، واكتفت ب«حصيرة» تفترشها لتنام عليها وفى حضنها طفلاها الصغيران، وفى الصباح تتركهما للعمل فى أحد المستشفيات مقابل 108 جنيهات شهرياً.. وعندما تسألها: «هل يكفى هذا المبلغ لسد احتياجات أطفالك؟»، تبتسم وتقول: «الحمد لله». بدأت مأساة نورا يوم الحادث عندما استيقظت فى الصباح، وخرجت من المنزل ومعها طفلاها «محمد وندى» لشراء الإفطار، لإعداده لزوجها خميس محمد الذى يعمل فى جراج فى العتبة، وعند وصولها طريق السكة الحديد الذى يفصل بين منشأة ناصر وعزبة بخيت، وقع الحادث.. تحرك الجبل فوق المنازل - على حد وصفها - سارعت نورا إلى المنزل، وهناك اكتشفت أن الصخرة غطت «بيوت المنطقة» بأكملها، وأن زوجها تحت الأنقاض. بعد الحادث بخمسة أيام استخرجت قوات الإنقاذ جثة زوج نورا، وقتها لم تستطع النظر إليه، فاحتضنت طفليها محمد (7 سنوات)، وندى (4 سنوات)، وهى تبكى بحرقة، ومن يومها رفضت كل المساعدات التى عُرضت عليها، وقررت الخروج للعمل للإنفاق على أسرتها. قالت نورا: نمت وطفلاى 15 يوماً فى الشارع، حتى تسلمنا الشقة فى المساكن، وننام فوق «حصيرة» على البلاط، لأننا لا نملك أى أموال نشترى بها «عفش»، وصباح كل يوم يسألنى ابنى محمد قبل ذهابه إلى المدرسة عن والده، وأقول له إن والده فى العمل، وسيعود فى المساء.. فمحمد لم ينس أن والده كان يلعب معه طوال الوقت.