قبل أن يهل علينا هلال رمضان الذى كان له استعداد خاص فى نفسه، رحل عنا واحد من شيوخ الصحافة المحترمين الذى علمنى وعلم الكثيرين من تلاميذه ، كيف يكون الكاتب الصحفى المحترف والمحترم، والأستاذ ذو العطاء المتجدد، والشيخ المتدين المستنير دون تزيد أو انغلاق أو تفريط، رحل الأستاذ عبد الوارث الدسوقى الذى كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، وهو المنصب الذى لم يشغله أحد قبله ولا بعده، فقد عينه الكاتب الصحفى الراحل موسى صبرى فى هذا المنصب لثقته المفرطة فى حرفيته وأمانته لكى يقوم بأعباء المؤسسة الضخمة ورئاسة التحرير فى غيابه . كان الأستاذ عبد الوارث الدسوقى أحد القلائل الذين عهدت إليهم الثورة بتأسيس جريدة الجمهورية مع آخرين منهم الراحلان حسين فهمى وكامل الشناوى وغيرهما، وتعامل بشكل مباشر مع الرئيس السادات الذى كان رئيساً لمجلس إدارتها، ومع أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، ومع ذلك لم ينافق أحداً، ولم يشكك أحد منهم يوماً فى وطنيته ونزاهته وحرفيته مهما غضب منه ومن صراحته المعهودة فى الحق وفى سبيل الله ، ثم اختاره الراحل العظيم مصطفى أمين لكى يعمل معه فى الأخبار، فكان يعمل دائما فى صمت وبحرفية ونزاهة جعلته مصدراً لثقة رؤسائه، وجامعة مهنية وأخلاقية لكل تلاميذه ومن تعامل معه، كان اسمه علماً فى مجال الصحافة بالنسبة لكبار الكتاب والصحفيين وصغارهم، ولكنه ظل غير معروف بالنسبة للقارئ العادى لأنه كان يرفض دائما أن يكتب اسمه على كتاباته وأعماله، فقد كان يشرف على الصفحات الدينية كل جمعة، واليومية فى رمضان، وكان يكتب يوميات الشيخ الشعراوى فى الأخبار بعد المرحوم أحمد زين، ويشرف على صفحات « الرأى» التى كانت تجمع بين شتى الآراء والأهواء والأطياف، كل ذلك دون أن يكتب اسمه على أى منها، وكنت أتعجب من ذلك أشد العجب، فهذا العملاق الذى كان يمكن أن يكون ما يريده يكره المناصب كراهة التحريم، ويعزف عن الشهرة ويهرب منها ومن أضوائها التى تحيط به من كل جانب، فيسلطها على الآخرين بالرغم من أن كل من يدخل إلى بلاط صاحبة الجلالة يكون غاية أمله أن يرى اسمه وصورته منشورين بجانب عمله، ولكنه كان شخصية من نوعية خاصة يفعل الواجب لذاته دون انتظار لأجر أو لشكر أو لمديح إلا من المولى عز وجل، كان لديه من العلاقات والأسرار والخبايا الكثير التى كنت أتمنى أن يخرجها من خزينة ذكرياته، والتى لو توافر بعضها لغيره لصنع منها عشرات الكتب والبرامج المثيرة، لكنه كان يفضل الصمت، وكان من حظى أن أستمتع بالقرب منه لأكثر من عشرين عاماً، والتعلم منه، والحديث إليه، مثل الكثيرين غيرى الذى كان لهم بمثابة الأب والمعلم والأستاذ والصحفى والشيخ، كان يدهشك دائما فى اختلافه سواء معك فى بعض ما تكتبه من آراء ومع ذلك ينشرها لك، أو فى تناوله لوجهات النظر المختلفة من أكثر من زاوية، فيفتح أمامك آفاقاً لا تتكشف إلا للحكماء من أمثاله. كان الأستاذ عبد الوارث صوفياً ومتديناً مخلصاً ومستنيراً تتلمذ على يد الأئمة والشيوخ الوسطيين من أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ الباقورى والشيخ محمود شلتوت والشيخ الشعراوى وغيرهم رحمة الله عليهم جميعاً، ومع ذلك فقد كان يختلف معهم أحياناً ويناقشهم ويقنعهم، فكانوا يستنيرون برأيه وبمناقشاته الثرية وآرائه السديدة، وقد قيل فى تعريف التصوف كما جاء فى كتاب الشيخ ياسين رشدى أنه «فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه»، والمتصوف المتحقق بالإخلاص يستوحش من ظهور أعماله الطيبة وأحواله كما يستوحش العاصى من ظهور معصيته، ويرقى فى الإخلاص حتى يصل إلى أن يغيب فى إخلاصه عن إخلاصه، وكان الأستاذ عبد الوارث رحمه الله من هذا النوع الذى يستوحش ويستاء عندما تمتدحه أو تشكره أو تثنى عليه . أبى وأستاذى الحبيب .. لقد عرفتك دائما كبيراً فى داخلك.. كريماً فى عطائك .. تملؤك البساطة والتواضع والإيثار، مع الشموخ والعزة والثقة بالنفس، يدفعك الحب إلى منابع الخير فتغترف منها وتعطى للآخرين .. تجملك وتحيط بك هالات من نور الإيمان والحكمة والمعرفة .. تعلمت من خلالك أيها الأب الحنون كيف يكون تواضع الكبار .. وصمت الحكماء، وبلاغة الشعراء .. وسعدت فى حضرتك بصحبة الصديق .. وحنان ورقة الوالد .. ونزاهة القلم عندما يكون فى يد الكبير، فإلى لقاء أتمناه لكى نحشر معك ومع من أحببت، ومن نحب من أمثالك وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم، وجزاك الله عنا خير الجزاء . [email protected]