رحل ابن كفر دنشواى فى هدوء وسكينة كما كان يحب.. رحل بعد أن بذر بذور الحُبَ والمعرفة فى أرض الوطن غير عابئ بمن يتقبل نبته أو يرفضه.. رحل عبدالوارث الدسوقى أعز خريجى الأزهر الشريف وعمود من أعمدة الصحافة اليومية.. رحل ابن كفر دنشواى، الذى أبى فى الثمانينيات أن يورث مكتبته لأحد أفراد أسرته أو لأحد تلاميذه أو لجميعهم، وفضل أن تسير قافلة المعرفة من منزله بشارع حسين حجازى، المتفرع من شارع قصر العينى.. قافلة من أمهات الكتب والموسوعات والتراث، إلى مكتبة مسجد كفر دنشواى لتصبح الثقافة لكل العابرين وتصبح زاداً للأجيال كما أراد. رحل عبدالوارث الدسوقى عن خمسة وثمانين عاماً قضى معظمها خبازاً لغذاء العقل للملايين، مؤمناً بدور الصحافة فى غذاء البسطاء وتوصيل الضياء العقلى لهم.. رحل بعد أن أرسى قواعد الدين المستنير عن شيخه وشيخنا الباقورى وعبداللطيف دراز، أئمة الإسلام.. الإسلام المستنير.. رحل بعد أن أسس جريدة «الجمهورية» من بدايتها وشارك فى تغيير صحف دار «أخبار اليوم» نائباً لرئيس مجلس إدارتها، ومسؤول الصفحات المهمة، وهى الرأى للشعب واليوميات. كما أرسى قواعد الدين المستنير فى صفحات دينية جديدة، غير أن تياراً ضيق الأفق الدينى كان أقوى منه، ومن أولى الأمر منا، فنفذ التلاعب بالدين والتجارة بآيات الله والنصب بالصلاة على النبى فكان يبتسم ويقول لنا: «لا يضيق أفقكم بهم.. إنهم إفراز عصر»، كما أفرزت مصر من قبل عبدالله النديم والإمام محمد عبده، واحتضنت الأفغانى، كان رفيع الاختلاف وذكى الخلاف لا يجرح حرية رأى ولا يحجر على ضيق أفق. كان أستاذى ويعز على ويعتصر الحزن القلب والقلم حينما أكتب فهو موجود وفى سن القلم بضمير صعب التواجد فى زمن غابت فيه الضمائر.. كان خلافه معى يولد مواقف جديدة ونبيلة وقوية، كان خلافه يضىء ولا يعم الظلام بأى اختلاف معه. كان أستاذى جلال الحمامصى لا يرسل عموده (دخان فى الهواء)! إلا بعد أن يقرأه عبدالوارث كان أستاذنا مصطفى أمين ينتظر رأى عبدالوارث فى «فكره».. وينتظر خطاباته المشجعة فى سجنه. من مواقفه الواضحة حينما طلبنا الرئيس السادات قبل رحيله بأيام ليناقش من يختلفون على (كامب ديفيد) وقال عبدالوارث للرئيس: وأنت راع وكل راع مسؤول عن رعيته أما نحن فرعايا ومن حقنا الاختلاف المشروع معك. وظللت أحتفظ بسر هذا اللقاء الذى عقده الرئيس السادات رحمه الله فى ديمقراطية غير مسبوقة، ظللت أحتفظ به حتى عام 2008، وحينما قلته فى برنامج خاص جداً مع الإعلامية عزة مصطفى.. عاتبنى أستاذى عبدالوارث قائلاً: - هل لو كان السادات حياً كنت أعلنت ذلك؟ - قلت له: لا أدرى تماماًَ ولكنى أعلنته دفاعاً عنه. واختلف أستاذى معى ولكنه لم يتوقف عند الخلاف وتخطاه لمواضيع أخرى. كان عبدالوارث الدسوقى يؤمن بالقرية كوعاء لبناء الوطن، وأنها تمد المدينة بالبشر الذين تدربوا على البناء بالزرع ووضوح الرؤية وعدم محدودية الاتجاهات. كان من رأيه أن الصحافة تقوم مقام الكتاب فى دفع المعرفة فى عروق المجتمع، واهتم بأبواب الشباب وتوجيه الشباب وإبعاد ساحتهم عن التطرف ليس الدينى فقط، ولكن التطرف الفكرى والتطرف السلوكى لأنه كان من رأيه أن التطرف يخلق إنساناً ضيق الأفق، قليل الإبداع. آمن بالفنون كلها، سواء تشكيلية أو موسيقية، وكان أيضاً شديد المقدرة على اكتشاف الموهوبين من الكتاب والأدباء حريصاً على إتاحة الفرص لهم ليظهروا موهبتهم وليشاركوا فى بناء وجدان الأمة. آمن بالعمل النقابى وسانده وساهم فى بناء لائحة نقابة الصحفيين واتحاد الصحفيين العرب. أستاذى القلم يقطر دمعاً.. وأنت أكبر من هذه السطور.. وأغزر مما كتبت ويكفينى افتقادك فى الخلاف، حيث يصبح الخلاف لذة ويصل الاتفاق إلى التراحم.. رحمك الله ورحمنا معك.. نحن الذين نعمنا بحياة (دوّارك) وليس مكتبك.. نحن الذين عشنا حكمتك.. هل راح هذا الزمن برمته؟!