مكث مُطرقاً لا تبدر منه أى إشارة استجابة حيال الجمهور، ثم عاود الإنشاد، فصعدت الدماء إلى رأسى، إذ أدركت أنه يُنشد أبياتاً من شعرى كنت كتبتها مباشرة قبل رحيلى، (الصب تفضحه عيونه..) قصيدتى تنشدها هاتان الشفتان البدويّتان. التفتُ نحو محمد، إذن هذه هى القصة. ابتسمت له، غير أنى كنت أود لو أن الأرض تنشق وتبلعنى. فثمة ما نفّرنى فى غناء هذا المراهق. القوة، والرنة، وامتلاك النفس واضحة جداً، ولا يسعنى أن أنكر ذلك، غير أن هذا الصوت الذى يُباشر المطالع على هواه، يُفعمنى بعفوية غير محتشمة، لا واعية. ففى ثنايا بعض النغمات تُضفى تلك البحّة الخفيفة نكهة شهوانية، شيئا من الشعور. كنت أشعر بضيق. كان كيانه يرتعش انسجاماً وتتحول كلماتى إلى أداء ما يريد هو، وكنت أنا، حتى أنا، أصدق أنها حقيقة. لم تكن الكلمات بل الشىء نفسه، الإحساس، سرى الحميم الذى يُعلن للناس كافة. لم يكن الغناء صادراً فقط من الحنجرة، بل إن الجسد بأكمله يرتعد، لا بل كأنه يحلّق، لإطلاقه إلى الخارج. رعدة انتشاء ساكنة. استطاع هذا الفتى الأمرد أن يجسد الألم والرقة اللذين كنتُ أسمعنى، أنا نفسى، معبراً عنهما للمرة الأولى، عبره هو. كان الألم والرقة فيه هو. كنت أعرف اللحن، فالشيخ أبوالعلا لحَّن القصيدة وأنشدها وطبعها على أسطوانة 78. وقد أدى الفتى اللحن بأمانة وفى أدق التفاصيل. لكن الفرق يكمن فى الصوت. لقد دوَّنت الحروف، وجاء لينفخ الروح فيها، ومازال يواصل الغناء، كأنه أبد. وها أسمع الآن البيت الأخير: (وبى الذى بك يا ترى/سرّى وسرّك من يصونه). لم أعد إلى بلدى غريباً، كانت تلك هدية محمد لى، لم يتوقع منى هذا المقدار من الانفعال الذى يكاد يكون مؤلماً، ولم أرغب فى أن أظهره له، ونهضت هاتفا مع الهاتفين. نهض الفتى البدوى بدوره محاولاً أن يرجع من الغيبة التى ألمت به، وأحسب أن أحداً لا يدرك حاله كما أدركها أنا. كان ينحنى للجمهور باسطاً ذراعيه إلى الوراء. وفى الأثناء انحسر طرفا عباءته عن نحره، فسارع بحركة عصبية إلى جمعهما بكلتا يديه. لم يستغرق الأمر أكثر من ثانية واحدة. غير أنى استطعت أن ألمح فى انحسارهما الخاطف، استدارة نهدٍ تحت زى الفلاحين الخشن. بحركة تكاد تكون غير محتشمة، خلعت عَمْرتها، فبدا شعرها الأسود الكثّ. لقد غنيت لك هذا المساء، بدرت إلى القول. لم يبق للشحوب أثر على سيمائها، ما عادت تخشى شيئا. إنها بدوية، لا بل حتى إنها ليست بدوية، مجرَّد فلاَّحة، من بلدة تدعى (طماى الزهايرة) بالدلتا. والآخران هما والداها شيخ مسجد البلدة وشقيقها وهو شيخ أيضاً، أهلّ بأهل على نحو ما. والمعروف أن أصول الحشمة تقضى بألا تصعد الفتاة إلى خشبة المسرح، غير أنها كانت تكسب فى ليلة واحدة ما يكسبه والدها فى شهر كامل. لذا اضطرت إلى التنكر بهذا الزى. «كنت خائفة. فهذه قصيدتك، وأنت حاضر بين الجمهور» كنت لا أصدق عينى، فمازالت فى نظرى فتى – فتاة، ولا شىء قد يمحو ذلك من ذهنى، إذ بدت شبهة الخنثوية وجمال صوتها مرتبطين على نحو غامض. أمرّ فاتنّ وعجائبى قليلاً. مصدر اضطرابى تلك اللحظة وما تلاها، تكاد لا تنقضى، جَمُدَ الكلام فوق لسانى. كان محمد بجانبى، فيما الشيخان يحيطان بمحطتيهما مبتسمين، بدا الأمر سخيفاً. فأمسكت بيدها ورفعتها إلى شفّتى ألثمها، نوع من التحية الصامتة لا أكثر، غير أن أصابعها استسلمت لكفّى وتراخت الذراع استجابة. فأحسست بتلك الحيوية الجسمانية، وبذلك القبول الخفى. التمعت عيناها، لأقل من ثانية، ورأيت التماعها يقيناً، نظرة حادة، محض اقتدار، محض متعة. - زدتنا بركة وشرفاً.. رجل مثلك. أدركنى الشيخ إبراهيم بمعونته، فعبارات اللياقة هى المنقذ فى مثل هذه الأحوال، ومن دونها يقع الويل. - لقد غنَّت قصيدتى، فالشرف لى. قلت للوالد فيما الفتاة ترمقنى بنظراتها. غَضْنُ العينين يجعلها أشبه بفتاة آسيوية، وكانت تقرأ ما تقوله شفتاى وما يدور فى رأسى، علانية، كأنها تعرف كل شىء عنى. لم لا تكتب لى، سألتنى بصوت خفيض. سأكتب لك. ولكنْ.. ولكنْ ماذا؟ أكتب أشياء بإمكانى أن أغنيها. لا أفهم. كم من الناس تصلهم كلماتك؟ أقصد الناس العاديين الفلاحين.. لم أستطع أن أغنى «الصبُ تفضحه عيونه» إلا بمعونة الشيخ أبوالعلا. الشعر يُكتب بالفصحى. تخل عنها لأجلى، واحتفظ بها لسواى. لم لا يكون الشعر بلغة يفهمها الجميع، لم لا؟ كان محمَد يحدق بى مذهولاً. كان يغنى نصوصى، وكان صديقى، وما كان ليجرؤ يوماً طلبا كهذا. ولكنه سمعنى وسمعت نفسى أجيبُ هذه الفتاة التى التقيتها لتوى قائلاً: لا أدرى إذا كنتُ سأفلح فى ذلك، ولكننى سأحاول.