(1) على الرغم من قناعتى بأن مقاربة أحداث التوتر الدينى فى مصر لابد أن تنهج مسارا تحليليا مختلفا يتعامل مع الظاهرة المستمرة على مدى أربعة عقود بمنهج مركب: اقتصادى واجتماعى وثقافى بسبب تعدد اللاعبين المشاركين فيها وتغير أشكال التحالفات بينهم، واختلاف المصالح بالتالى وحدوث تحولات جذرية فى بنية المجتمع المصرى، بحيث يتجاوز هذا النهج المقاربات التقليدية النمطية والسطحية.. إلا أن هذا لا ينبغى أن يكون على حساب تأخر تحقيق المبادئ الإنسانية والدستورية الأصيلة.. وفى هذا السياق تأتى قضية حرية العقيدة وإقامة الشعائر الدينية فى مقدمة ما يجب أن يدافع عنه المصريون لبعضهم البعض..أو تحقيق ما يعرف فى أدبيات المواطنة»بالمواطنة الثقافية» Cultural Citizenship، والتى تعنى: ■ «حق الخصوصيات الثقافية فى داخل الوطن الواحد أن تعبر عن منظومتها العقدية الخاصة بها بكل حرية بصورة يألفها الجميع.. وأن يتاح لكل خصوصية ثقافية أن تمثل فى المركب الثقافى العام من خلال إدراج التاريخ الثقافى للخصوصيات المتنوعة ضمن التاريخ العام والذاكرة الوطنية للوطن...». (2) واقع الحال، لقد كثرت فى الآونة الأخيرة أحداث توتر دينى فى أكثر من مكان بسبب الشروع فى بناء كنيسة أو تحويل مبنى خدمات إلى كنيسة بدون ترخيص.. ويمكن أن يتفهم المرء أن تكون هناك بعض المعوقات ذات طابع ثقافى تتمثل فيما أسميه «ثقافة اجتماعية مانعة» تحول دون بناء الكنيسة لبعض الوقت.. أو أن بناء كنيسة إلى جوار مسجد قد يسبب بعض الاحتكاكات.. ولكن أن يتحول موضوع بناء الكنيسة بشكل عام وفى مناطق ذات أغلبية من المصريين المسيحيين، إلى وقود لإثارة العنف بين المصريين من مسلمين ومسيحيين.. فهو ما يحتاج إلى مراجعة منا كلنا. لقد حاولنا تتبع هذا الموضوع من الناحية العلمية وأنجزنا دراسة متكاملة حوله قدمت إلى مؤتمر المواطنة الذى نظمه المجلس القومى لحقوق الإنسان منذ عامين أوجزه فى العناصر التالية: ■ تاريخيا: بناء الكنائس وتجديدها من الموضوعات التى لم يكن للحكم الإسلامى فيها سياسة ثابتة، حيث تأرجح الموقف منها حسب الظرف الاجتماعى والسياسى وليس الدينى. ■ فقهيا: يرى الفقه المصرى وذروته فقه الإمام الليث بن سعد أن بناء الكنائس من «عمارة الأرض».. وضرورة بناء كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر.. ولكى تظل للكنائس حرية العبادة فيها. ■ دستوريا: تنص المادة 46 من الدستور الحالى على أن الدولة «تكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية». (3) هل يتصور القارئ العزيز أن قضية بناء الكنائس فى مصر قضية تشغل الرأى العام منذ سنة 1972، وتحديدا منذ ما عرف تاريخيا بحادثة الخانكة.. حيث تم تشكيل لجنة برلمانية لتقصى الحقائق.. والتى وضعت تقريرها فى 28 نوفمبر 1972 فى المضبطة 13 لمجلس الشعب المصرى.. وقد ناقش التقرير ثلاثة موضوعات من ضمنها كان موضوع الترخيص بإقامة الكنائس.. ومن ضمن ما ذكرته اللجنة حول أسباب الاحتكاكات وإثارة الفرقة ما يلى: ■ «.. عدم وضع نظام ميسر لتنظيم هذه التراخيص دون تطلب صدور قرار جمهورى...». وعلى الرغم من صدور القرارات الجمهورية: الأول رقم 13 لسنة 1998، والثانى رقم 453 لسنة 1999، والثالث رقم 291 لسنة 2005، حيث تم تفويض بالأخير «المحافظين كل فى دائرة اختصاصه فى الترخيص للطوائف المسيحية والموافقة على بناء أو إقامة أو إجراء تعديلات أو توسعات فى كنيسة قائمة...». ■ إلا أن الإشكالية لم تزل قائمة لأن التفويض تناول فقط ما هو قائم وليس ما هو مطلوب إقامته. خلاصة القول، فى ضوء الخبرة التاريخية... والحق التاريخى للمصريين من المسيحيين غير الوافدين من الخارج.. ووفق فقه مصرى تاريخى معتبر... واجتهادات معاصرة متميزة... هناك حاجة إلى قانون منظم لبناء دور العبادة فى ضوء المادة 46 من الدستور بتوافق وطنى عام على قاعدة المواطنة... وبجهد ثقافى يؤكد على قيم الحقوق المدنية لكل المصريين. أخذا فى الاعتبار أن مصر مركب حضارى متعدد العناصر لا تصبح مصر مصرا بدونه، وبناء الكنائس وغيرها من المظاهر التى يجب على المصريين المحافظة عليها. وإن حرص كل طرف على حق الآخر هو البداية لأن يدافع الجميع عن حقوقهم تجاه ما يتهددهم معا. فالتعددية الحضارية والدينية هى التى تعطى معنى للذات، وأنه لا يكون موجودا إلا بالآخر.