يولد الناس صغاراً ثم يكبرون. هذه هى إحدى حقائق الوجود التى لا يمكن أن تتغير إلا فى خيال كاتب أو صانع أفلام. الثورات على العكس من ذلك. كل الثورات تولد كبيرة، وما ينجح منها يصغر، حيث تستقر الأوضاع التى ترتبت عليها، أما ما يفشل منها، فإنه لا يصغر فقط، بل يصبح وقوعه مشكوكاً فيه، ومن هذا النوع ثورتنا المجيدة! من ينظر إلى أحوالنا الآن هل يمكن أن يتصور أن ما يقرأه فى كتب التاريخ والأغانى عن حركة الضباط المباركة حقيقة وقعت بالفعل؟ لا أثر للثورة إلا فى يوم الإجازة ومناهج التعليم؛ فهى مقرر دراسى ينبغى النجاح فيه بصرف النظر إن كان الموضوع حقيقياً أم خيالياً، تاريخاً أم فزورة، ورياضة فكرية محضة. ومثلما يستطيع الطلاب التعامل مع منهج اللغة العربية الملىء بالأخطاء المؤسفة، ومثلما يحتملون منهجاً عنوانه علم الاجتماع بينما لا علاقة لما تحت العنوان بعلم الاجتماع، بل مجرد دعايات رخيصة حول تنظيم الأسرة، يستطيعون كذلك أن يرددوا أهداف الثورة بكل اقتدار، حتى لو لم يكن هناك ثورة أو أهداف. ويوم الامتحان يجيبون بالطريقة المطلوبة، وينجحون بتفوق، وقبل إعلان النتيجة يكونون قد نسوا كل شىء عن الثورة وعلم الاجتماع والعربية غير الفصحى. بالنسبة للفلاحين صار الإصلاح الزراعى حلماً غائماً لا يذكرون تفاصيله، أما بالنسبة لعمال وموظفى الحكومة، فقد أصبحت كلمة الثورة تعنى مجرد اسم ليوم راحة آخر من عمل غير مجد؛ يوم لن يتعامل فيه الموظف كرهينة فى طريقه إلى العمل، ولن يحتجز فيه رهائن من طالبى توقيعه، وسيفطر فيه ويصلى فى بيته بدلاً من المصلحة، التى يذهب إليها لإنجاز هاتين المهمتين المقدستين. وبالنسبة لعمال القطاع الخاص فإن 23 يوليو فرصة ليوم مدفوع زيادة على الراتب الشهرى الهزيل. وبالنسبة لمن يتعاملون مع البنوك ومكاتب الحكومة هو يوم وقف حال. سبعة وخمسون عاماً مرت على الثورة التى رحلت منذ ما لا نذكر، بينما نواصل الاحتفال بها فى حداد صامت. لم تعد تحظى ببعض من آيات القرآن، ولم يُقم لها قداس، ولا أثر فى الواقع المصرى لأى من أهدافها. المجانية نطت سور المدارس مع الطلاب والأساتذة، وتبددت على مدرجات المراكز التعليمية الخاصة، والتعليم الجامعى تمزق بين دكاكين وأكاديميات المغامرين واختراعات وزارة التعليم العالى للتنصل من المجانية فى كليات الفنون وأقسام اللغات بمعظم الكليات الأخرى! التعليم الخاص متعدد المصادر والولاءات، من الجامعة الأمريكية إلى الألمانية والفرنسية والكندية، ولا ندرى ماذا بعد. والتعليم الحكومى أصبح عادة ومخصوص. ركاب للدرجة الثالثة وركاب للأولى المميزة، وما جمعه الفساد لا تفرقه أربع سنوات جامعية، حيث سيتجمع الخريجون مرة أخرى فى عربة البطالة. وعن العلاج حدث بكل ألم. لا يوجد بلد فى العالم شرقاً أو غرباً به كل هذا العدد من أنظمة التداوى، وجميعها يجعل الموت أملاً عزيزاً يناله المحظوظون ومن ترضى عنهم السماء. الموت بكرامة أصبح أمل كل من يدخل تجربة المرض، لأن ذلك أفضل جداً من استئناف الحياة بكرامة مهدورة. كرامة المريض وكرامة طبيبه مهدرة فى المستشفى العام، وكرامته وحده فى المستشفى الخاص الذى يضع المريض الذى ليس لصاً فى عداد المتسولين، ولا يمكن لمن يدخله أن يخرج بكرامة روحه حياً أو بكرامة جسده ميتاً، عندما تفر الروح وتترك الجثمان رهينة حتى يسدد الورثة تكاليف الموت. حاربت الثورة سيطرة رأس المال على الحكم، ثم أعاد الحكم المحرر تخليق رأس المال، لكى يسيطر على الجميع. ورأينا بعد سبعة وخمسين عاماً إحدى علامات يوم القيامة التى يخيفنا منها واعظو الفضائيات (أن تنجب الأمة سيدتها)! أنجبت الثورة أسيادها، وأسياد شعبها. مليارديرات اختلقهم نظام يستمد شرعيته من الثورة. تكاثروا بطريقة التصوير السريع، من خلال التخصيص المجانى السفيه لمليارات الأمتار من الأراضى، بينما ينفق المواطن العادى عمره من أجل حلم إسكان أولاده. والنظام الذى يرتكب هذه التفرقة الفجة وغير الدستورية بين المواطنين يعطل الحياة يوم 23 يوليو من كل عام، احتفالاً أم سخرية من مبدأ العدالة، لا نعرف! كل ما نعرفه أننا لم نعد نجمع على شىء، حتى الموقف من يوم الإجازة، وكل ثورة ونحن طيبون. وإلى متى يمكن أن يدوم هذا الوضع ؟ الاحتفال بالثورة وإهدار العدالة التى حملتها شعاراً؟